Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
ثقافة

أحمد الشهاوى يكتب: لماذا استحق المتصوفة لقب سلطان؟




المتصوفة هم أصحاب السُّلطة الرُّوحيّة بسلوكهم وأفعالهم ونتاجهم الشِّعْري أو النثري وكراماتهم الصوفية، والتصوُّف هو الثورة الرُّوحية في الإسلام “بحسب تعبير أبي العلا عفيفي.


” يا مليح الدَّلِّ والغُنُج


لك سلطانٌ على الـمُهج” 


 


فلقد استحق المتصوفة لقب (السلطان)؛ لأنهم سلاطين زمانهم، ولأن كل سلطان صوفي يرى نفسه سلطان زمانه، أو هو بالفعل هكذا، فقد وقع الصدام بينهم وبين “سلاطين السياسة” من الخلفاء والحُكَّام والأمراء، ولذا عاش سلاطين الصوفية تحت سيف هؤلاء المتسلِّطين، فكانت النتيجة المباشرة أنَّ منهم من قُتِل، ومنهم من سُجِن، ومنهم من نُفِي، ومنهم من عُذِّبَ وأُهِين، وقد كان أوائل الصوفية ينفرُون من السَّلاطين والأمراء.


 


كانوا سلاطينَ في زمانهم، ولهم سطوةٌ رُوحية على من عاصرهم. وكانت كلمتهم مسموعةً عند الناس؛ لأنهم  لم يتقرَّبوا من سلطانٍ جائرٍ ظالمٍ، ولم يتربَّحوا منه. 


 


إنهم أربابُ الحقائق، وليسوا من “أهل الظَّاهر” أو” أهل الرُّسُوم” ، إنَّهُم “رجال قطعهم الله إليه وصانهم صيانة الغيرة عليهم؛ لئلا تمتد إليهم عين فتشغلهم عن الله . لقد انفردوا مع الله راسخين لا يتزلزلون عن عبوديتهم  مع  الله طرفة عين ” بتعبير محيى الدين بن العربي، الذي  كان من ضمن أسمائه” سلطان العارفين” ، مثلما كان اسم عمر بن الفارض “سلطان العاشقين”.


 


………..


 


الصوفي هو الذي ينفض يديه وقدميه وملابسه وهو ماشٍ على الأرض، أي أرض، سواء أكانت له، أم وقفًا، لا يبتغي منصبًا، أو جاهًا، أو سلطانًا، متيقنًا  أنه صار  نقيًّا من آثار الدنيا الزائلة الفانية.


 


ولا يتاجرُ إلا في ثمار الصدق، ومن دون تكالبٍ على ما هو دنيوي، يزهد فيما يقبل الناس عليه، لا يتعلق بشيء،  هو ابنٌ للمجاهدة، يسلك الطريق، مداويا نفسه، قبل أن يداوي سواه، يسير في النور، مثلما تسري الإشاراتُ في روحه، يكشف ما احتجب وما استتر وخفي عنه،  يجلو مرآة قلبه ويصقلها بالإشراق حتى تتجلى، وأن يعرف مكنون نفسه؛  كي يسهل له الوصول بعد تمام الوصل، حيث تنكشف له أمورٌ لا تُعد ولا تُحصى.


 


الصوفي رحب، وذو شسوع، قلبه يسع الكون، لا يفلت الزمام منه،  مهما تكن المتع والمغريات، صاحب كبرياء وأنفة، على الرغم من بساطته وتواضعه، حبل روحه مربوط بالنور، وممتد بمشكاوات السموات. لا يقع في الشباك أو الحبائل التي يدبرها الأغيار أو العابرون أو المارون على الدين.


 


لا يعرف الخزي أوالخذلان أو الذلة أو الحسرة أو البغضاء أو الحسد، يصير شخصا آخر جديدا كلما طلعت شمس، يسلب ولا يسلب.


 


والصوفي  يرى الفقراء إلى الله كحبات الزيتون فيهم الكبير، وفيهم الصغير، ومن لم يكن فيه زيت فالصوفي زيته،  كما قال السيد أحمد البدوي صاحب الطريقة الأحمدية (596هجرية – 1199ميلادية / 675هجرية – 1276 ميلادية).


 


الصوفي صاحب نظر؛ لأنه من أهل الصفاء، ملآن بالإلهام، قلبه يشرق بالنور، يمتاز عن سواه بالعرفان، إذ يسمو عن عالم المادة، أفادته خلوته وغيبته عن الناس، فعَلَا فيضُه، وكثرت سياحته الروحية، يشتد به الوجد سواء أكان وحده أم وسط زحام من البشر، مصداقًا لقول الشَّاعر العربي دعبل الخزاعي ( 148- 246هجرية / 756- 860 ميلادية ):


 


” إنِّي أقلِّبُ عيني حين أفتحُها 


على كثيرٍ ولكن لا أرى أحدا”.


 


وفي الخلوة،  حيث الوجد والذوق والتجلِّي “الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب”، وفيها يقع التجرد من المظاهر، حيث تسبح الروح في بحرها الوسيع الذي لا ساحل له ، ولا إدراك.


 


إن التصوف يفتح فيضا من المعاني الربانية وآفاقا معرفية لا حد لها أمام الصوفي، إذ يسلك الطريق ببصيرته المعرفية، وتنهمر الإلهامات على قلبه “وعلمناه من لدنا علما”.


 


الصوفي هو عالم رباني، روحه تشرق بالأنوار، تربى على علم القلوب، وهو الوهب لا الكسب، أو العلم الوهبي.


 


والصوفي كما يقول شيوخي: “نالوا علوم الدراسة، ومنحوا علوم الوراثة”؛ حيث تكشف أمامه نواميس الله في الكون؛ لأن من يتدبر ويتأمل لهو  في رزق دائم لا ينقطع.


 


الصوفي بحر لا يدرك له قرار، ولا يعرف له ساحل، وقديما قال السيد البدوي: “إن سواقي تدور على البحر المحيط، ولو نفد ماء جميع سواقي الدنيا، ما نفد ماء سواقي”.


 


…………..


 


الصوفيون لا يكفِّرون أحدًا من أية ملَّة. 


وهم ليسوا أهل استبداد أو طغيان أو عدوان،  إنهم فقط قريبون من الله.


 


لا يعرفون غلوًّا أو تعنُّتًا، بل هم أبناء السماحة  والاعتدال، بديعون وليسوا مبتدعين،  متفانون في عبادته، وزاهدون  في الثروة والمظاهر، لا يبتغون ملذَّات الدنيا الفانية،  ومتقشِّفُون في كل شيء، ومكتفون بقلوبهم النقية المتطلعة إلى الحُب، وبعيدون عن التحارُب والتقاتُل والتطاحن والتكالب والمذهبية، مشغولون بتصفية قلوبهم، فهم يجاهدون روحيًّا ولا يحملون أيَّ أنواع من الأسلحة، مسالمون بطبيعتهم، وبحكم أخلاقهم وتربيتهم النفسية، ويسلكون طريق الحق والهداية، يبحثون عن الحقيقة المطلقة التي يسعون إليها، ويطلبون الوصول إليها.


 


ويؤمنون أن الذهاب إلى الله وعبادته والتضرُّع إليه على عدد أنفاس البشر، ويرشدون الخلق إلى طرق الحق، يدفعون الشر ويستجلبون الخير.


 


وهنا علينا أن نستعيد ما كتبه الشيخ الأكبر محيى الدين بن عربي شعرًا عن موقف المتصوفة من الأديان والمعتقدات:


(لقد كنتُ قبل اليوم أنكرُ صاحبي 


إذا لم يكُن ديني إلى دينِه داني


لقدْ صارَ قلبي قابلاً كلَّ صورةٍ 


فمَرْعًى لغِزْلاَنٍ وديْرٌ لرُهْبانِ


وبَيْتٌ لأوثانٍ وكعبة ُ طائفٍ 


وألواحُ توراةٍ  ومصحفُ قرآنِ


أدينُ بدينِ الحبِّ أنَّى توجَّهتْ رَكائِبُهُ 


 فالحُبُّ دينِي وإيماني)


 


وللأسف يقول المتطرفون عن ابن عربي: “الشيخ الأكفـر محيي الشرك”، ومن يصفه بذلك من المؤكَّد أنه لم يقرأ كتابًا واحدًا له.


 


المتصوفة في مصر أو في غيرها من الدول مستهدفون ومُطاردون ومُحاربون من المتشدِّدين قديمًا وحديثًا، ويسَاء الظن بهم دائمًا، والأمر لا يختلف كثيرًا عندما سيق إلى الذبح قطبان صوفيان من أقطاب الوقت وهما الحلَّاج والسُّهروردي، حيث تُهدم أضرحة الأولياء والمتصوفة، أو تُحرق  مساجدهم أو يتم تدميرها، والاعتداء على المصلين بها، إذ يرى المتطرفون أن الصوفيين كفَّار وملاحدة، ويناهضونهم، ويناصبونهم الكراهية والعداء، وفي زماننا هذا يُكفِّر الوهابيون – أينما كانوا – المتصوفة ويحرقون كتبهم ويمنعونها، ويستهدفون  المكتبات  التي  تبيعها ، والناشرين الذين ينشرونها.


 


ففي مصر مثلا رأينا متطرِّفين ضالين مُضِلِّين مأجورين ومرتزقة من داعش أو سواها قتلت الأب الروحي للصوفيين الشيخ سليمان أبو حراز  السواركي الأشعري الشافعي في سيناء، وأحد أبناء قبيلة السواركة، وكان ضريرًا ومُسنًّا يبلغ عمره حوالي مئة سنة، وخير من يمثِّل الإسلام المعتدل، الذي يتنافى  مع أفكار الجماعات  المتطرفة والشاذة، التي تلبس الدين رداءً خارجيًّا لها، حيث اتهمت الشيخ الزاهد بالكهانة والسِّحر، وادَّعاء علم الغيب، ودعوة الناس للشِّرك  “وذبحته، وذبحت معه الشيخ قطيفان المنصوري الذي تم قتله بالطريقة نفسها، وبالتهم نفسها، وقد وزَّعت داعش أو تنظيم أنصار بيت المقدس أو ولاية سيناء  (لا فرق عندي بينها في التطرُّف والتشدُّد وممارسة الإرهاب باسم الدين)  فيديو يصوِّر مقتلهما  مصحوبًا بجُملة: ” تنفيذ الحكم الشرعي على كاهنين” ، وكان ذلك في سنة 2016 ميلادية.


 


كأن هؤلاء القتلة المجرمون لا يدركون أن الدين – أي دين – يُحرِّم سفك دم الأبرياء، ويُشدِّد على حرمة دماء العجزة والضعفاء وكبار السن.


 


كما  فجَّرت عددًا من الأضرحة الخاصة بالصوفيين في كل من  الشيخ زويد والروضة  بسيناء، ثم فجَّرت مسجدًا في يوم جمعة (مسجد قرية الروضة، وكان  مقرًّا للطريقة الجريرية الأحمدية الصوفية، ببئر العبد في سيناء، أثناء صلاة الجمعة، وسميت هذه الطريقة بالجريرية نسبةً إلى مؤسِّسها الشيخ عيد أبوجرير “1910 – 1971 ميلادية”  المدفون في قرية سعود التي يسكنها أهل قبيلة الطحاوية  أخوال ابني الوحيد أحمد، وقد رعاها بعد رحيله ابنه أحمد الأمين “توفي عام 2014ميلادي”، وكان للشيخ  عيد أبي جرير دور مهم في مقاومة أهل سيناء  للعدو الإسرائيلي عندما كان يحتل جزيرة سيناء، ويعد  من الرموز الكبار  لمجاهدي سيناء).


 


….


 


وفي حوار أجراه معي  في مونتريال “كلود ليفيك” نُشر 21 من أكتوبر 2013 بجريدة لودوفوار الكندية بلسانٍ فرنسيٍّ، وهى من أشهر وأكبر الصحف في كندا، وقد ترجم فقرات من الحوار إلى اللغة العربية الشاعر والناقد الدكتور وليد الخشاب أستاذ الأدب بجامعة تورونتو الكندية  قلتُ: ” إن المتصوف كائن منفتح على العالم، يقبل الديانات كافة. وكما قال الشيخ الأكبر والصوفي المسلم العظيم، ابن عربي، “الحب ديني وإيماني”.


 


“المتصوفة مسالمون، يحبون الحياة والعشق، ولا يمارسون السياسة”، إلا أن هذه السمة لم تجنبهم ويلات الاضطهاد على مر العصور. وهم يشكلون الأغلبية في العديد من البلاد الإسلامية، ومنها مصر، لكن “تم إسكات أصواتهم “، ويؤسفني أن أقول إن الغرب لا يحتفظ (من العالم الإسلامي) إلا بصورة المتطرفين، يظن أن هذا العالم لا يقدم سوى المجرمين”، هذا جزءٌ من حواري ، لكنني قلتُ أيضًا لمحاوري إن الغرب وأمريكا دائما ما يقدمان الدعم المادي والمعنوي لكل الجماعات الدينية المتشددة ولم نرهما مرةً واحدةً يدعمان المُتصوفة أو التصوف، أو حتى ينفق مالا قليلا لنشر كتابٍ صوفيٍّ، لأنه يدرك أن التصوف صورة مشرقة للإسلام، وهو لا يريد لهذه الصورة أن تنتشر وتتعمَّق في نفوس العالم ، الغرب لا يريد ابن عربي (558  هـ 1164م –  638هـ – 1240م) آخر، ولا جلال الدين الرومي (604 هـ – 672 هـ = 1207 – 1273 م) آخر، لأنهما أبرز أنموذجين يدلان على سماحة واعتدال الدين الإسلامي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى