قصة “سره الباتع” لـ يوسف إدريس.. الحلقة الأولى
سره الباتع.. قصة للكاتب الكبير يوسف إدريس، بعد مرور 65 عامًا على صدورها تحولت إلى مسلسل تليفزيوني ضمن مسلسلات رمضان 2023، للمخرج الكبير خالد يوسف، وتزامنا مع عرض مسلسل سره الباتع، ينشر “اليوم السابع” قصة “سره الباتع” التي نشرت لأول مرة عام 1958 ضمن مجموعة قصصية بعنوان “حادثة شرف”.
قصة سره الباتع.. الحلقة الأولى
لم تكن علاقتي بالسُّلْطان تتعدَّى مجرَّد نظرة غير مُحِبَّة للاستطلاع أُلْقِيها عليه كلَّما مررْتُ به في ذهابي وإيابي، نظرة سريعة كأنما لأطمَئِنَّ بها فقط على وجوده هناك، فقد كان علامةً رئيسية من علامات البلد، مثله مثل محطة السكة الحديد، وسراية آل ناصف، والبقعة المسكونة التي قُتِل فيها سيد إبراهيم.
ولكني ذات يوم اضطُررتُ أن أشغل نفسي بالسلطان، فقد فُزْتُ يومَها بأول نجاح في حياتي ونُقِلتُ من السنة الأولى الابتدائية، وفرحتي بالنجاح يومها كانتْ أكبر من كل فرحة أحسستُ بها لأي نجاح حدث لي بعد هذا، فرحة تمنَّيْتُ معها أن أعود من المدرسة إلى بيتنا على جناح طائر، لأزفَّ الخبر إلى جدي الأكبر، والد جدي، وكان عجوزًا جدًّا، له ظهر شديد الانحناء، وتجاعيد كثيرة لطيفة تغطِّي وجهه ورقبته وصدره وكل جسمه، تجاعيد تبدو من كثرتها وتناسُقها وكأنه وُلد بها.
وما كاد جدي يسمع الخبر حتى قال لي في صوته الجاد: “أوفِ النذر حالًا”.
وكنتُ قد نسيتُ حكاية هذا النذر تمامًا، فقد حدث خلال العام أن انتابتني حالة يأس وأنا أذاكر، واعتَرَاني شبهُ يقين أنني مهما فعلتُ فلن أنجَحَ أبدًا، وكدتُ أبكي ساعتها، ولكني ذهبتُ إلى جدي، وصنعتُ له قهوة زائدة السكر كما يحبها وحملتُها له خلسة (إذ كان يحب القهوة، وكان جدي الأصغر، ابنه، يَمْنَعُه عن شربها، فكان بيننا شبه اتفاق، أن أسْرِق له البن والسكر، وننتحي مكانًا قصيًّا نصنع القهوة فيه، في مقابل أن يحدِّثني هو بعد أن يَزِنَ رأسه عن زمان وأيام زمان الحلوة)، يومَها حملتُ له الفنجال، وانتظرتُ إلى أن شربه كلَّه شفطةً شفطةً، ولحس كل البن المترسِّب في القاع، ثم سألتُه إن كان يعتقد أني سأنجح، والشيء الغريب أني كنت متأكِّدًا أن جدي الأكبر هذا لا يعرف ما هي المدارس، ولا ما هو النجاح، ومع هذا فحين قال لي لحظتها إنني سأنجح بإذن الله، أحسستُ أنني لا بد سأنجح، وكدتُ أطير فرحًا، غير أنه اشترط لنجاحي يومها أن أنذر للسلطان حامد نصف دستة شمع أُوقِدها في ضريحه.
ولم يتركني إلا بعد أن نذرتُ النذر أمامَه، وأعدْتُه مرارًا حتى أطمأنَّ إلى أنني لم أخطئ في قوله.
ولم تكن مشكلةً أن أحصل على ثمن الشمع؛ فقد كنتُ ناجحًا، وطلبات الناجح، خاصة في يوم نجاحه، لا تَلقَى معارضةً تُذكَر.
ولم أغفر لنفسي أنَّ الشيطان يومَها راوَدَني حين ذهبتُ إلى الدُّكَّان، وفي الحقيقة لم يكن هو الشيطان، كان «البرطمان» الذي يحتوي كمية هائلة من «الكراملة» ويرقد على جانب البنك هو الذي راوَدَني.
وقسمتُ العرب عربين كما يقولون، واشتريتُ بنصف ما معي ثلاث شمعات وبالنصف الآخَر «كراملة».
وبينما كنتُ آخِذًا طريقي إلى حافة «الجبَّانة» حيث مقام السلطان كنتُ لا أزال أؤنِّب نفسي، بل أحيانًا كنتُ أتصوَّر أنَّ السلطان حامد سينتقم للثلاث شمعات التي اغتصبتُها من نذره بأن يزورَني في المنام مثلًا، أو يُصِيبني بداء الصفرة.
ولستُ أدري أكان هذا هو السبب في اضطرابي أم شيء آخَر كان السبب، فقد بدأتُ أُحِسُّ باضطراب شديد حين أشرفتُ على الجبَّانة ورأيتُ مقام السلطان حامد من بعيد، وشيء غريب هذا، فآلاف المرات رأيتُ مقام السلطان حامد من بعيد، دون أن أحفِلَ به، حتى لون الضريح لم أكن أعرفه، ولا كان يهمُّني مَن السلطان في قليل أو كثير، ولكني مع هذا كنتُ مضطربًا، حتى فكرتُ أكثر من مرة في أن أوَلِّيَ الأدبارَ وأطلق ساقي للريح عائدًا إلى بيتنا، خاصة وأنَّ مسألة النذر هذه لم تكن قد دخلتْ إلى عقلي، وأنا متأكِّد أن السلطان هذا ليس له أيُّ علاقة بنجاحي، وأنه لم يُساعِدني في الإنجليزي ولا غشَّشَني في مسألة القسمة المطوَّلة، والنذور والعفاريت وشم البصل يوم شم النسيم، أشياء لم أكن أؤمن بها، لا لأنَّنا كنا قد أخذنا في المدرسة أنها بِدَعٌ ورِجسٌ من عمل الشيطان، ولكن لأنَّ الناس كلَّهم يأخذونها كالقضايا المسلَّم بها، فكيف أفعل أنا هذا؟! وما فائدة تعليمي حينئذٍ وبدلتي؟!
ورغم شدة اضطرابي فلم أرجع، لا خوفًا من جدي، ولكن خجلًا من نفسي وخوفًا من أبدو أمامَها كالجبان، والظاهر أننا ونحن أطفال نخجل من الفرار أيضًا مثلما يفعل الكبار.
وهكذا ظلِلْتُ أخاف وأتحدَّى الخوف وأتقدَّم تدفعني الرغبة في القيام بتجربة جديدة حتى وصلتُ إلى مقام السلطان حامد، كان قائمًا في ركن من الجبَّانة، وبجواره طريق مقطوع لا يمر به أحد، وكانتْ أول مرة أرى فيها الضريح عن قُرْب، ولم يكن ضريحًا بالمعنى المفهوم، كان أهل بلدنا يسمُّونه المقام، ولهم حق، فلم يكن يُشبِه من قريب أو بعيد أضرحة أولياء الله في القاهرة، وكنتُ قد زرتُها مع أبي، ورأيتُ رَوْعَتَها، وسجاجيدها السميكة الفاخرة، وشبابيكها المذهبة، ونجفَها الفخم الكبير والرائحة الغريبة الغامِضة التي تملأ جوَّها وتُوحِي بالرهبة والخشوع والإجلال، أمَّا مقام السلطان فقد كان عبارة عن حجرة قديمة وكأنَّها مبنية منذ الأزل، ذهب الطلاء عن كل جدرانها وبقيتِ الحجارة الحمراء بارزة متآكِلة كضلوع الميت العجوز، ولم يكن يُميِّز المقام عن بقية المقابر إلَّا أنه مبنيٌّ من الحجر؛ إذْ إنَّ معظمها مبنيٌّ من الطين، والأغنياء وحدَهم هم الذين يطلونها بالجير، ويكتبون أسماء موتاهم عليها، يكتبها لهم عم محمد البنا بطلاء الزهرة وبخطِّه العاجِز الركيك.
ثمَّتَ فرقٌ آخَر بين المقام وبين القبور، فدونًا عنها كانتْ هناك أشجار كافور طويلة قد زُرِعتْ حول المقام، ويبدو أنها زُرِعتْ أيضًا منذ الأزل، فقد كانتْ طويلة طولًا لا حدَّ له، وجذوعها سميكة لا يستطيع عملاق أن يحتَضِنَها، وكانتْ مزروعةً بنظام حتى بدَتْ كالسُّور العالي المهيب.
وكان كل شيء يدعوني إلى أن أنتهي من مهمتي بسرعة وأعود، فالعصر يضيق، والظلال تمتدُّ بشكلٍ مخيفٍ، وحقول القمح واسعةٌ كبحرٍ أبيض لا شاطئ له، والناس فيها مجرد نقط غامقة صغيرة لا تكاد تُرى.
ودُرْتُ حول المقام، لم يكن له سوى باب كالِحٍ قديم، ونافذة واحدة يتيمة، كانت لا بدَّ هي النافذة التي حدَّثني عنها جدي، وتقدَّمتُ منها، ولكن، قبل أن أصِلَها، فوجئتُ ببحيرات وأنهار من الشمع المتجمِّد قد ملأتِ الأرض، كان الشمع الذي سال من النذور على مرِّ الزمن قد ملأ حافة النافذة، وسال على الجدار حتى غطَّى أحجاره العارية، ووصل إلى الأرض.
وأدركتُ أنَّ آلافًا قبلي لا بد قد نذروا للسلطان حامد، ومَن يدري، ربما ملايين (والملايين في لغة الأطفال لا تعني دائمًا ملايين).
وكدتُ أضحك على سذاجة أهل بلدنا الذين ذابَتْ نقودُهم واختلطَتْ بالرمال، لأجل ماذا؟! لأجل هذا السلطان الذي لا خادم له ولا مسجد ولا مستجيرين، ولا حتى ضريح يوحي بالاحترام؟!
كدتُ أعود وأحتفظ بالشمع لنلعب به أنا وأصحابي في الليل ونُوقِده ونسهر حوله، وكم يكون هذا مسلِّيًا وجميلًا! بل أنَّبتُ نفسي لأنني أضعتُ القرشَ في الشمع ولم أشتَرِ به «كراملة» هو الآخَر وسمحتُ لنفسي أن تصنع مثلَما يصنع أهل بلدنا الجهَلة، الذين لا يقرءون ولا يكتبون.
ولكني يومها، احتفظتُ بشمعةٍ واحدةٍ فقط، وأوْقدتُ الاثنتين، لستُ أدري لم! ربما تنفيذًا لتعليمات جدي ليس إلَّا، وربما رغبة في تقليد أهل بلدنا، فقط في تقليدهم، بل لماذا لا أعترض وأقول إنني، بعد أن قرأتُ الفاتحة، ودعوتُ لجدي ولوالدي، نذرتُ للسلطان إن أنا نجحتُ في العام التالي أن أوْقِدَ له دستة شمع بأكملها؟.
ورغم أنني قلتُ لنفسي وأنا عائد إنني نذرتُ الدستة فقط لتفاؤلي بمسألة النذر إلَّا أنني من يومِها بدأ السلطان حامد هذا يشغل عليَّ تفكيري بشكل ما.
كان أحيانًا يصعب عليَّ، ذلك الوَلِيُّ الفقير المدفون في تلك البقعة النائية الموحِشة، وأحيانًا كنتُ أفكِّر في المؤمنين به، الفقراء مثله، الذين يتمنَّوْن أمنياتهم الصغيرة الطيبة، ويرفعون بصرهم إلى السماء، وينذرون للسلطان حامد، ويحقِّق السلطان أمانيهم فيُسرِعون إلى نافذته، ويُشعِلون شمعاتهم، وليلة وراء ليلة تضيء نافذة السلطان حامد بشمعة، أمنية صغيرة تحقَّقتْ، وقلب فقير رأى لحظة سعادة، ولو لليلة، وأحيانًا كنتُ أفكِّر في الكمية الهائلة من الشمع المتجمد بجوار المقام، كيف لم يسرقها أحد؟! كيف لا، والسلطان ليس له خادم يحرسه، والطريق إليه خالٍ من المارَّة، والناس في بلدنا لا يتركون طوبة تنفع ولا حجرًا إلَّا قلْقَلوها وحملوها إلى بيوتهم؟!
أحيانًا كنتُ أفكِّر في تجريد عصابة من أصحابي للسطو على الشمع، وأحيانًا كنتُ أخاف، وأحيانًا كنتُ أسمع اسم السلطان، لم أكن أسمعُه كثيرًا ولا مسبوقًا بتكبير أو محفوفًا بتقديس خطير، وإذا جاءتْ سيرته لا يتوقَّف الواحد من أهل بلدنا عن الكلام مثلًا ويقرأ له الفاتحة بخشوع، ينفض الواحد منهم بلغته وهو يستعدُّ للقيام ويقول: «معلش، أهه كله من عضم النهار، شالله يا سلطان حامد! شالله».
أو تتربَّع الولية من الولايا أمام مقطف السمك وتقول لعم علي الصياد: «بكام؟» فيقول: «بعشرة»، فتعود تقول: «وللسلطان حامد بكام؟» فيخفض عم علي حينئذٍ وجهَه ويغلق عينيه وكأنما غُلِب على أمره ويقول: «عشان السلطان بتمنية، وعشانك انتي بتسعة»، أو يرفع الرجل جوال الطحين على رأس زوجته، ويقول وهو ينتعه: «إيدك يا سلطان».
وكنتُ أعرف أهل بلدنا جيدًا، كانتْ لا تُخِيفني منهم وجوههم المكشرة على الدوام، ولا ذقونهم التي تشوِّك أو نظراتهم التي تظن أنها خالية من الرحمة والشفقة، كنتُ أعرفهم تمامًا، وأعرف أنهم لا يقولون ما يعتقدونه إلَّا بينهم وبين أنفسِهم، أمام العمدة أو الموظفين، يقولون كلامًا عاليًا كثيرًا، ويحلفون الإيمان المرتفعة المغلَّظة، وإذا سألهم الغريب عن شيء قالوا عكس ما يُضمرونه، هم لا يُخرِجون ما في أعماقهم إلَّا رغمًا عنهم، في كلماتهم المتناثِرة، في همساتهم الخافِتة وراء ظهور موظفي الحكومة، في حديث الرجل إلى زوجته بعد العشاء حين يركبن بظهره إلى الحائط ويمدِّد ساقَيْه على طولهما، ويقول: «ليلة امبارح يا بت، حلمت خير، اللهم اجعله خير، أن السلطان حامد جاني وقال لي: «أنت نايم للضهر ليه؟! قوم، الشمس طلعت، قوم».
اكتشاف المزيد من موقع الدكتور العتيبي
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.