حكايات المؤثرين.. عباس العقاد.. عملاق الأدب العربي
نشأة بسيطة
ولد “عباس محمود العقاد” بمحافظة أسوان عام 1889م، وكان والده موظفا بسيطا بإدارة السجلات، اكتفى العقاد بحصوله على الشهادة الابتدائية، غير أنه عكف على القراءة وثقف نفسه بنفسه؛ حيث حوت مكتبته أكثر من ثلاثين ألف كتاب، عمل العقاد بالعديد من الوظائف الحكومية، ولكنه كان يبغض العمل الحكومى ويراه سجنا لأدبه لذا لم يستمر طويلا فى أى وظيفة التحق بها. اتجه للعمل الصحفي؛ فعمل بجريدة «الدستور»، كما أصدر جريدة “الضياء”، وكتب فى أَشهر الصحف والمجلات آنذاك، وهب العقاد حياته للأدب؛ فلم يتزوج، ولكنه عاش قصص حب خلد اثنتين منها فى روايته “سارة”.
عملاق في الأدب والسياسة
ويعد العقاد أحد أهم كتاب القرن العشرين في مصر، وقد ساهم بشكل كبير في الحياة الأدبية والسياسية، وأضاف للمكتبة العربية أكثر من مائة كتاب في مختلف المجالات، نجح العقاد في الصحافة، ويرجع ذلك إلى ثقافته الموسوعية، فقد كان يكتب شعراً ونثراً على السواء، وظل معروفآ عنه أنه موسوعي المعرفة يقرأ في التاريخ الإنساني والفلسفة والأدب وعلم الاجتماع.
أسس «مدرسة الديوان» مع «عبد القادر المازني» و«عبد الرحمن شكري»؛ حيث دعا إِلى تجديد الخيال والصورة الشعرية والتزام الوحدة العضوية فى البناء الشعرى. كما هاجم الكثير من الأدباء والشعراء، مثل «مصطفى صادق الرافعي». وكانت له كذلك معارك فكرية مع «طه حسين» و«زكى مبارك» و«مصطفى جواد» و«بِنت الشاطئ».
شارك العقاد بقوة فى معترك الحياة السياسية؛ فانضم لحزب الوفد، ودافع ببسالة عن “سعد زغلول”، ولكنه استقال من الحزب عام 1933م إثر خلاف مع «مصطفى النحاس». وهاجم الملك أثناء إعداد الدستور؛ فسجن تسعة أشهر، كما اعترض على معاهدة 1936م. حارب كذلك الاستبداد والحكم المطلق والفاشية والنازية.
تعددت كتبه حتى تعدت المائة، ومن أشهرها العبقريات، بالإضافة إلى العديد من المقالات التي يصعب حصرها، وله قصة وحيدة، هي «سارة» توفى عام 1964م تاركا ميراثا ضخما، ومنبرا شاغرا لمن يخلفه.
العقاد يتحدث عن نفسه
يبدأ العقاد سيرته الذاتية «أنا»، برؤيته لنفسه وكيف يعرفها قائلًا إنه شىء آخر مختلف كل الاختلاف عن الشخص الذى يراه الكثيرون من الأصدقاء أو من الأعداء، قائلًا «الشخص الذى يراه الناس فى العقاد أستغربه كل الاستغراب حين أسمعهم يصفونه أو يتحدثون عنه، حتى ليخطر لى فى أكثر الأحيان أنهم يتحدثون عن إنسان لم أعرفه قط، ولم أَلْتقِ به مرة فى مكان، هنا يطرح العقاد سؤالًا مهمًا ومعقدًا وهو «هل يعرف الإنسان نفسه؟»، ثم يجيب بكل حزم، كلا، بغير تردد، فلو أنه عرف نفسه لعرف كل شىء فى الأرض والسماء، إنما يعرف الإنسان نفسه بمعنى واحد، وهو أن يعرف حدود نفسه حيث تلتقى بما حولها من الأحياء أو من الأشياء. والفرق عظيم بين معرفة النفس ومعرفة حدودها؛ لأننا نستطيع أن نعرف حدود كل مكان، ولكن لا يلزم من ذلك أن نعرف خباياه، وخصائص أرضه وهوائه، وتاريخ ماضيه، ولو قسنا كل شبر فى حدوده.
عملاق في مواجهة عملاق
عرف عباس العقاد بأنه كان قاسيا جادا، لا يهتز ولا يميل عن رأيه ولو كان أهم قامات عصره العلمية، ولهذا استحق الرحل لقب عملاق الأدب العربى، وكان هذا منذ نعومة أظافره، وهو ما ظهر في موقف بارز جمعه مع إمام التنوير الإمام الكبير محمد عبده.
الكاتب عاصم بكري، فى كتابه “أنيس منصور كما لم يعرفه أحد: سير وتراجم) ص 107)”، وعلى لسان الكاتب الصحفي الراحل، وهو ما رواه “العقاد” نفسه خلال لقائه التليفزيونى الوحيد قبل وفاته بعام واحد مع الإعلامية ناشد، حيث حكى أن الأديب عباس العقاد، والذي تمر اليوم ذكرى ميلاده الـ129، إذ ولد فى 28 يونيو عام 1889، كان قد التقى قديما وهو طالب في الثالثة الابتدائية بالإمام محمد عبده، إذ إن الأخير كان يطوف ببعض مدارس الجمهورية، وصادف أن يكون من بينها المدرسة التى تتلمذ فيها “عباس العقاد”.
وأثناء مرور الشيخ الجليل والعالم الكبير، بأحد الفصول، فإذا به يطلب من التلاميذ أن يكتبوا موضوعا للتعبير بعنوان “الحرب والسلام” ويكمل الأستاذ العقاد راويا: بإنه فى الوقت الذى انصرف فيه كل الطلاب يكتبون مادحين السلام معترفين له بفضائله الحقيقية الواقعية على الحضارة البشرية ناقمين على الحرب التى تبرز الجوانب الحيوانية فى الكائن الإنسانى وتدمر إنجازات البشرية عبر العصور، لكن العقاد وحده، ترك السلام وظل يكتب مادحا الحرب ويقول عنها إنها المصنع الذى يصقل معادن الرجال ويفرز منه الأبطال من الأنذال، ويستطيع الإنسان فيه أن يتقدم أسمى الآيات للتضحية والفداء فى سبيل ما يؤمن وما يعتقد، ويجود بحياته الكريمة ثمنا لنبله ووفائه للقيم والمبادئ العظيمة.
كلمات العقاد والذى له طابع السحر منذ نعومه أظافره، لمست قلب الشيخ المجدد الإمام محمد عبده، فإذا بالعقاد فوجئ بالإمام محمد عبده ينادى:”أين التلميذ عباس محمود العقاد”؟، فيقول العقاد “خرجت إليه واثقا مطمئنا لأننى لم أكن أدرك حينها فى طفولتى أن محدثى هو أعظم قامة إسلامية فى عصره، وأنه المجدد الحقيقى الذى تستحقه البشرية والعالم الإسلامى كل مائة عام”، فإذا بذلك الرجل يربت بيديه على كتفى قائلا: “يا أيها الصبى ينبغى أن تهتم بنفسك من كل الوجوده فإن القلم الذى خط هذه السطور التى قرأت، جدير أن يحمل صاحبه إلى أعلى المراتب الفكرية والأدبية”.
ويبدو أن ذلك اللقاء كان له عظيم الأثر فى نفس الأديب الراحل، الذى يمجد الشيخ الجليل حتى وأضاف ضمن سلسلة العبقريات التى تحدث فيها عن الأنبياء والصحابة الكرام، فألف له كتابا بعنوان “عبقري الإصلاح والتعليم: الإمام محمد عبده”.
عملاق في وجه الملك
المفكر عباس محمود العقاد، عملاق الفكر كما كان يطلق عليه الزعيم سعد زغلول، وفي حياة العقاد معارك أدبية جَعَلتْهُ نهمَ القراءة والكتابة، منها: معاركه مع الرافعي وموضوعها فكرة إعجاز القرآن، واللغة بين الإنسان والحيوان، ومع طه حسين حول فلسفة أبي العلاء المعري ورجعته، ومع الشاعر جميل صدقي الزهاوي في قضية الشاعر بين الملكة الفلسفية العلمية والملكة الشعرية، ومع محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس في قضية وحدة القصيدة العضوية ووحدتها الموضوعية ومعارك أخرى جمعها عامر العقاد في كتابه: «معارك العقاد الأدبية».
جانب آخر يكشف عنه تاريخ العقاد، فالكاتب الكبير كان معروفًا عنه حبه لشخص سعد زغلول، زعيم ثورة 1919، وكتب عنه ووصفه بالعملاق، وكان الزعيم من جانبه يحب العقاد، ويصفه بالكاتب الجبار، وبالطبع العقاد كان وفديًا، لكن ذلك لم يمنعه من الصدام مع مصطفى النحاس، واختلافه معه، بما يؤكد أن العقاد لم يكن يقدس الفكرة، ويدافع عنها بالباطل، بل يقف مع ما يراه ويظنه الحق.
ومن المواقف الواضحة والجادة والحازمة التي كان عباس محمود العقاد بطلها، منها وقفته تحت قبة البرلمان حينما كان نائبًا فيه في عهد الملك فؤاد، الذي أراد أن يلحق تغييرًا في بعض مواد الدستور، فوقف العقاد وقال قولته الشهيرة “إن الأمة على استعداد لأن تسحق أكبر رأس فى البلاد يخون الدستور ولا يصونه”، هذه الكلمة المهمة كلفت العقاد تسعة أشهر من السجن سنة 1930 بتهمة العيب في الذات الملكية.
عملاق رقيق في حب مى زيادة
العقاد ومي كانت تربطهما علاقة وطيدة، البعض قال إنها صداقة كبيرة، وخرجت بعض التكهنات بأن علاقتهما تطورت إلى الحب والغرام، حب عباس العقاد مي زيادة وكان شديد الغيرة عليها، ولكنها كانت مترددة في علاقتها به، فقلبها نبض بحبه ولكنها كانت تخاف من جرئته، حتى أن الروائي الجزائري الكبير واسيني الأعرج خرج في إحدى تصريحاته وأكد أن العقاد أراد أن يقيم مع مى زيادة علاقة “جنسية”.
كذلك الشاعر والكاتب الصحفي الكبير كامل الشناوي، فى كتابه “الذين أحبوا مي زيادة: وأوبريت جميلة”، أنه لكي يعرف العلاقة بين العقاد ومى رجع إلى صديق للأول لازمه لأكثر من 30 عاما، والذى أكد للشناوي بأن حب مى عصف بقلبها وقلب العقاد، إلا أنه أكد أيضا أن العفة هى أساس العلاقة بينهم، وقال إن أقصى ما ناله العقاد من مى قبلة على جبينها أو قبلة على جبينه، وقد كانت مى ضنينة بقبلاتها على كل من أحبوها بحسب ما وصفها صديق “الشناوى”.
فيما قال الكاتب الدكتور خالد محمد غازى، فى كتابه “مى زيادة: سيرة حياتها وأدبها وأوراق لم تنشر”، إن رسائل العقاد بـ مى كان فيها من الشعور العميق ما يؤكد عن وجود مشاعر حب بينهما، ويشير “غازى” إلى أنه بعد عودة مى من رحلة ألمانيا إلى مصر، عاد العقاد من أسوان بعد تلقى عزاء شقيقه، وطلب من مى أن يلتقى بها فى غير الثلاثاء – موعد صالونها الأسبوعي – فوافقت وفى أول لقاء ضمها بعد غيبة، وجلسا معا في غرفة المكتب، ويتابع غازي أن مي عندما كانت تزور العقاد فى مكتبه، لم تكن تعتقد برهبانية العقاد، لكنها كانت على يقين بأن جميع النساء فى نظره هى امرأة واحدة.
سارة روايته الوحيدة وسر الدفين
كتب العقاد رواية واحدة طوال حياته هي “سارة”، ولأن العقاد لم يكن رجلاً عادياً، لم تكن قصة سارة عن امرأةً عادية أيضا، كي ينسى التاريخ هذه القصة دون توثيق، قصة تكشف كثيرا من الأسرار العاطفية بين المرأة والرجل، غير أنها الرواية الوحيدة للكاتب الكبير عباس محمود العقاد غير أنها تحمل سر كبير عن المرأة الوحيدة التي يقال أنه أحببها في حياته، وهى التي اعتقد الكثير أنها مي زيادة، لكن أيضا يرى البعض انها النجمة الراحلة مديحة يسرى.
الكاتب محمد الهوارى في كتابه “أعلام الأدب العربى المعاصر” يرى أن العقاد كان فى حياته ثلاث قصص حب هى الأديبة مى زيادة، وسارة وهى فتاة لبنانية تدعى “أليس داغر” وهى بطلة روايته الشهيرة “سارة”، والنهاية كان مع موعد مع علاقة أخرى عنيفة، فقد جمعته الصدف عام 1940، مع ممثلة ناشئة فى العشرين من العمر تدعى “هنومة خليل”، فوقع فى حبها رغم فارق السن الكبير بينهما، واختلاف المشاعر، لأنها كانت تنظر إليه بإعجاب بينما هام بها حبا، مع أنه كان يعرف أن هذا الحب لن يكتب له الاستمرار، فقد أصبحت نجمة مشهورة، ثم تزوجت عند أول فرصة من زميل لها فى التمثيل وتركت العقاد يصارع مشاعر الخيبة والألم.
وكانت البداية التي لا يعرف عنها الكثير، بدأت بعدما نشرت مديحة صورتها فى إحدى المجلات المصرية كوجه فني جديد عام 1939، وقد رأى العقاد الصورة، وظلت متعلقة بذهنه حتى أن أحد تلاميذه أكد له أنه يعرفها، فطلب منه باندفاع العاشق أن يحضرها إلى صالونه الأدبي الأسبوعي، وأغدق عليها بعطاء فكر وأدبى كبير، وفتح أمامها أبواب من العلم والمعرفة، حتى أنه يقال إن العقاد الذى كان عازفا عن الزواج، وقع فى غرام تلك الفتاة التى لم تكن تعدى سنها العشرين عاما، بينما هو رجلا فى الخمسين من عمره.
الناقد الكبير طارق الشناوى، ذكر فى مقال له نشر بعنوان “مديحة يسرى وقصة حبها للعقاد”، على لسان الفنان التشكيلى الكبير صلاح طاهر أن الحب الحقيقى للعقاد هى نجمة سينمائية سمراء، بدأت حياتها كمسئولة عن مكتب الكاتب الكبير، ووقع فى حبها وكانت هى تريد الاتجاه للتمثيل، وهو يرفض، حتى جاءت الفرصة فغادرت مكتبه وحياة العقاد، لكن الأخير لم ينسها ولم يكن يستطيع النوم، فلم ينقذه سوى صديقه الذى رسم له لوحة عبارة عن تورتة كبيرة تحوم حولها الحشرات، وضعها العقاد فوق سريره مباشرة، فكلما دخل الغرفة نظر إليها وتأملها قبل أن يستسلم للنوم.
ورمز صلاح طاهر إلى هذه النجمة بالتورتة أما الحشرات فهو المجال الفنى الذى تكاثر حولها، وكان صلاح طاهر أراد أن يجعلها بقدر ما هى مرغوبة فهى أيضاً مستحيلة ولم تكن هذه الفنانة سوى مديحة يسرى.
ويقال أن العقاد، كان كلما ينظر لتلك اللوحة يقول: “وبكيت كالطفل الذليل أنا الذي/ ما لان في صعب الحوادث مقودى”، وذكر الشناوى حينها أن الفنانة مديحة يسرى لا تنكر فى أحاديثها حب العقاد لها وتذكر الكثير من أشعاره التى كتبها عنها إحدى تلك القصائد تناولت كوفية ومعطف كانت قد نسجتها له على “التريكو”.
اكتشاف المزيد من موقع الدكتور العتيبي
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.