أشرف ضمر والتحليق فوق المخيلة فى “سيما على بابا”
نعود إلى التحليق فوق المخيلة فى رواية أِشرف ضمر فالتحليق فوق المخيلة هنا يعنى أن الكاتب حلق فوق مخيلته إذ لم يعش فيها ومنها فقد بل حلق فوقها فصار يرى من مكان أبعد وعليه فقد وجه عدسته الراصدة وسلط “الزووم” كيفما شاء ووفقا لإرادته متحكما فى المخيلة ذاتها وليس بأحداث الرواية فقط.
تدور أحداث الرواية فى فترة زمنية تبدأ من انتھاء الحرب العالمیة الثانیة عام 1945 ثم نكبة ضياع فلسطين، واندلاع ثورة يوليو 1952، وتحول مصر من الملكية إلى الجمهورية، تلك الأحداث المتقاربة التي انعكست آثارھا على المجتمع سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، متكئة على حي روض الفرج بحكاياته وأساطيره ومصائر سكانه، كرمز دال على الوطن والإنسان بصفة أكثر خصوصية.
هنا تكتسب الحكايات الفرعية سلطتها كموجه للمتعة وحارس للبهجة المصاحبة لقراءة الرواية فى النهاية فلن تتذكر الحكاية الأساسية وحدها بل ستتذكر الحكايات الفرعية أيضا على كثرتها وهى حكايات مسلية جدا تنطوى على معلومات مهمة وغرائبيات وحواديت يمكن فهمها فى إطار الأسطورة الشعبية.
الجانب الممتع فى الرواية يتعلق أيضا بالمعلومات التى تطرحها الرواية عن تاريخ روض الفرج “وخصوصا الجزء الخاص بالترام” وقد بذل الكاتب هنا مجهودا كبيرا ليضف إلى كل هذه المعلومات جنبا إلى جنب بطريقة مشوقة.
ركز الكاتب فى رواية “سيما على بابا” على الغرائبيات بشكل عام والتى يمكن تسميتها غرائب وعجائب المناطق الشعبية ومنها الرجل الذى يعيش على شريط السكة الحديد والمجذوب الذى يحترق بالنار والرجال الذين يرتحلون عبر القطارات من بلد إلى بلد وراء لقمة العيش قبل الاستقرار فى أماكن لا يعرفون عنها شيئا.
تاريخ البشر فى الرواية مهم أيضا فقد ابتكر أشرف ضمر شجرة عائلة لبعض شخوص الرواية وهو أمر اكتشفت أنه يضفى متعة ما لدى القارئ لسبب أعتقد أنه يدور حول المصداقية وإحساس المتلقى أن هذا الكاتب يحكى حكاية حقيقية بمعنى أنها حدثت بالفعل وهو طموح لو قيض للكتاب أن يختاروه لاختاروه ولو قيض للقراء اختياره لاختياره فليس أحب من التفاعل مع حكاية حقيقية.
مشهد المدخل إلى الرواية كان ملفتا للنظر وهو مهم للغاية ومن حظ ونصيب الكاتب أن يكون مدخل الرواية موفقا بوصفة عتبة النص فالكاتب اختار أن تبدأ الحكاية من دخول بطل الرواية محل حلاق ناظرا لصورة الملك فاروق سائلا الحلاق عنه ليرد الرجل ردودا حيادية “تمشى فى الاتجاهين المؤيد والمعارض” وهو إن كان مشهدا معبرا عن شخصية البطل ومن يقص له شعره فقد كان باعثا على المرح وممهدا لكون “سيما ألف ليلة” رواية لها طابع يعتمد على الصورة وتشكيل الدلالات.
من الشخصيات الملفتة للنظر فى الرواية الملاكم حسين أفندي العافية، الذي انتصر بضربة قاضية على الملاكم الإنجليزي المغرور، فخرج الأخير من الحلبة علي محفّة الإسعاف ليموت بعد ذلك، وهذه الشخصية تلقى الضوء على فكرة شيوع لعبة الملاكمة فى الأحياء الشعبية، وعلى هذا النمط من الشخصيات الذى ظهر من قبل فى أفلام مثل البطل وكابوريا، وهو نموذج حقيقى جدا.
هل كانت رواية سيما على بابا حكاية حقيقة إذن؟ إن هذا ما تشعر به عند قراءتك الرواية فكأن أِشرف ضمر يحكى عن أهل منطقته كما يحكى الواحد منا فى الشارع وفى الميكروباص وعلى القهوة. ما هو حجم الحقيقى والمتخيل فى هذه “الحدوتة”؟ ما هو حجم الحقيقى والمتخيل فى الرواية عموما لتكون ممتعة؟ إنه سؤال نقدى يفتح أبواب علامات الاستفهام وأغلب الظن أن الرواية لا بد وأن تكون خليطا من المتخيل والحقيقى، لكن ما هو المقدار؟ وكيف يكون المعيار؟ إنه فى النهاية شأن الكاتب الذى يختار –لحسن الحظ- كيف تكون خلطته.
اكتشاف المزيد من موقع الدكتور العتيبي
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.