60 عامًا بحثًا عن شبيب!!.. إخلاص معلم ووفاء طالب
في ضحى يومٍ قائظٍ مطلعَ العام الدراسي 1384هـ دَلَف إلى حجرة الصفِّ معلمٌ أردني ّشاب قدِم حديثًا للتدريس في المملكة العربية السعودية، وانطلق مع أول حصةٍ دراسيةٍ بهمة ونشاط وحماس يحفرُ عميقًا آثارًا ستظلُّ لعقودٍ من الزمانِ في نفوسِ طلابه الصغار وعقولهم لا تحول ولا تزول وهم يدرجون إلى الحياةِ في تلك القريةِ الوادعةِ من قرى وادي قديد على مسافة 150 كيلو شمال مكة المكرمة حرسها الله.
لمحَ المعلمُ الشاب في أحد طلابه الصغار مخايلَ النجابةِفخصّه بمزيدِ عنايةٍ واهتمامٍ وأتمَّ معه خلال ثلاث سنوات إلى جانبِ منهج اللغة العربية في المرحلة الابتدائية منهج العربية في المرحلة المتوسطة ودفعَ إليه بنظراتِ المنفلوطي وعبراته، وأهداه بعض كتب الأدب وقصصه، وزرعَ في نفسه حبّ لغة القرآن والتعلق بها حتى تخرج في المرحلة الجامعية متخصصًا فيها ومعلمَا لها في مدارس التعليم العام..
وظل اسم المعلم: (شبيب محمود حسن جودة) محفورًا في ذاكرةِ تلميذه النجيب الصغير آنذاك: عبد الرحمن بن عبد الله السيد سليلِ الدوحة النبوية الشريفة وأحدِ رموز التربية والتعليم في منطقة مكة المكرمة ومدير مدرسة ابن الجزري لتحفيظ القرآن الكريم بجدة.. والعجيبُ أن سنوات العمر المتتابعة لم تزحزح الاسمالرباعي للمعلم من ذاكرة تلميذه، فدأبَ كلما التقى بأحد نشامى الأردن الشقيق على سؤاله إن كان يعرف شيئا عن معلمه، ولم يجدْ رغمَ تكرارِ السؤالِ جوابًا، ولم يملَّ يومًا من السؤال، وقد كان أثرُ معلمه الجليل في نفسِه أكبرَ من أن يُنسى وكان وفاءُ الطالب النبيل أعظمَ من أن يمَل.
وذات ليلة مباركةٍ من ليالي العشر الأواخر من شهر رمضان الفائت قدَّر الله لصاحبنا السيد أن يلتقي في رحاب بيت الله الحرام بمعتمرٍ أردني تجاذب معه أطراف الحديث، ولم يلبث أن يسأله كالمعتاد عن معلمه فلم يختلف جواب الأخ الأردني عن غيره: لا أعرفه، لكنّه هذه المرّة وعَدَ بأن يجتهد في البحث عنه إذا عاد إلى دياره، وبعد ثلاثة أشهر من ذلك اللقاء الميمون المحفوفِ بنسائم ِالحبِّ الصادق والوفاءِ النادر رنَّ هاتفُ صاحبنا السيّد وكان على الطرف الآخر الأخ الأردني الذي التقى به في الحرم الشريف يزفُّ له البشرى ولسان الحال:
لعلَّ الليالي يكتسيْن بشاشةً..
فيرجعنَ من عهدِالهوى المتقادمِ
قال له بفرحٍ غامر: أستاذك لايزال حيًّا يرزق، وفي تمام الصحة والعافية، وهو يبحرُ في عقده التاسع.. دارتْبصاحبنا الدنيا، وهزَّ الفرحُ جنبات روحه، وطار قلبه من السعادة أو كاد، ولم تمضِ سوى أيامٍ قلائل حتى كان طريقُ الساحل يحمله على جناح الشوق في طريقه إلى الأردن للقاء أستاذه تتمايل به دروبُ الود، وتتراقص أمامه مشاعر الحنين، وتترنمُ معه شطآن البحر الأحمر كلما حاذاها في طريقه الممتدّ بالشوق بين جدة وعمّان.. وتلوح في خياله بين الحين والحين أطيافُ قاعة الدرسِفي مدرسة البُخترية في تلك الأيام الخوالي قبل 60 عاما بالتمام والكمال..
عقودٌّ من الزمانِ فرَطتْ من العمر ِكطيفْ، وهاهو صاحبُنا يقطعُ المفاوز ليقفَ منها على الأطلالِ وقد كانت حفيلةً بأجملِ سويعاتِ العمر وأحلاها.
قابل السيّدُ أستاذه الأثير فاحتضنه بحبّ، وقبّل رأسه بإجلال، وكانت الدموعُ سيّدةُ الموقف، ترقرقت فأفاضت بأحاديث المشاعر الصادقة التي لا تفي بها بلاغة الكلمات.. تجاذبَ الأستاذُ وتلميذه حديثًا موّارًا بالذكريات العواطر التي لا تزال تنبض بالحياةِ في ذاكرتهما ، ومكثَ السيّدُ أيامًا إلى جوار أستاذه يتردّد عليه كلَّ يومٍ ليرتويَ من معينه العذبِ الدفّاق ويجلسَ منه كما اعتاد في أيام الصبا مجلسَ التلميذِ يتعلم ويتأمّل بكل حواسّه..
وحين عزَم على العودةِ وقفَ في يوم الوداع يتملَّى في وجه أستاذه خشيةَ ألاّ يلقاه مرّة أخرى، احتضنه بحرارة وحبّ ثم مضى وكأنه ينشدُ مع الشريفِ الرضيّ:
وتلفتتْ عيني فمُذْ خفيَتْ..
عنّي الطلولُ تلفّتَ القلبُ
ولم تبارح الدعواتُ لسانه أن يسبغ الله على أستاذه لباس الصحة والعافية والعمر المديد..
ستون عاما مرّت بكل أفراحها وأتراحها وشجونها وشؤونها ولم تغب فيها بصمة المعلم المخلص من حياة تلميذه الوفيّ..
أيّ صدق وإخلاص ظلّ يحرك لواعج المحبة طوال هذه العقود وأيّ وفاء نادر ذلك الذي حمل تلميذا في عقده السابع –متعه الله بالصحة والعافية– ليطوي الزمان والمكان باحثا عن معلمه وهو يستحضر تأثيرا عميقا له إثرّ في مجريات حياته..
إخلاص معلم ووفاء تلميذ ما أجمل أن تتجدد معانيهما على الدوام في حياة معلمينا وطلابنا في هذا العصر المتسارع الخطى..
والخير ولله الحمد في أمة محمد صلى الله عليه وسلمباقٍ إلى قيام الساعة.