ياسر منجى يكتب: بعد 75 عامًا من رحيل رائدة الحركة النسائية المصرية 10روايات مختلفات لأول واقعة سُفور عَلَنية
غير أن أبرز ما يظل مرتبطًا دومًا بسيرة “هدى شعراوي”، هو دورها الفارق فى خدمة الحركة النسائية، ودعمها بالجهد والمال، والدعاية لها على أوسع النطاقات، محليًا ودوليًا، وهو ما تبلور فى تأسيسها للاتحاد النسائى المصرى عام 1923، الذى ظلت ترأسه حتى وفاتها، وكذا فى رئاستها للاتحاد النسائى العربى عام 1935، وهو العام نفسُه الذى شهد تقَلُّدها منصب نائبة رئيسة لجنة اتحاد المرأة العالمي.
وتبرُز فى هذا السياق واقعةٌ شهيرة، ارتبطت فى أغلب رواياتها باسم “هدى شعراوي”، ونُسِبَت إليها، وهى واقعة إزاحة أول امرأة مصرية لغُلالة “اليَشمَك” (البيشة) عن وجهها فى تظاهُرة عامة. وهى الواقعة التى كثيرًا ما توصَف بأنها (خلع الحجاب)، على رغم اقتصارها على كشف “البُرقُع” أو النقاب الوجهى فقط، وعلى رغم أن “هدى شعراوي” نفسها ظلت حتى نهاية حياتها ترتدى الحجاب، دون نقاب الوجه.
السيدة هدى شعراوي
وقد دعانى التواتُر الكثيف لذِكر هذه الواقعة، ضِمن سياقات ذات صلة وثيقة بأحداث ثورة 1919، إلى محاولة تَتَبُّعها فى عدد من النصوص التى أرَّخَت لها، وكان كُتّاب هذه النصوص إما أبطالًا لهذه الواقعة، وعلى رأسهم “هدى شعراوي” نفسها، أو شهود عيانٍ لها، أو معاصرين نقلوا عن بعض أبطالها، أو باحثين حقّقوا بعض هذه النصوص وأعادوا نشرها.
وكانت دهشتى كبيرةً، حين وجدتُ اختلافاتٍ كثيرة بين هذه الروايات، لا فى طريقة سرد الواقعة نفسها، بل حول أماكن وقوعها، وتاريخ وقوعها، ودوافع حدوثها وأسبابها، إلى أن يصل الخلاف إلى حد عدم الاتفاق على الشخصية التى تزَعَّمَت هذه الواقعة، فتتفرق الروايات بين كونها “هدى شعراوي” وبين كونها “أم المصريين” “صفية زغلول”.
والنتيجة العامة التى يَخلُص إليها مَن يستعرض هذه الروايات، ويقارن بينها، هى أن حدث استعلان سُفور المرأة المصرية فى الفضاء العام لم يكن حَدَثًا بسيطًا، بل جرى فى سياق معقد، متداخل الأحداث، إلى درجة تختلف معها روايات معاصريه وشهود تفاصيله، بل وتتعدد بعض روايات بطلته نفسها، “هدى شعراوي”، حين قدمت شهادتها عنه فى عدة مناسبات منشورة، كما سيتضح بالتفصيل لاحقًا.
الغريب أن هذا التعدد فى الروايات –وفقًا لما أُتيح لى الاطلاع عليه من مصادر مذكورة بالتفصيل فى سياق المقال – قد بلغ أكثر من عشر روايات، تختلف أكثرُها فيما بينها فى رسم تفاصيل الحدث، والتحديد القطعى لتاريخه، ومكان حدوثه، وشُخوص المُشاركين فيه، ودوافع حدوثه، وهو ما يمكن رصده على النحو التالي، مع ملاحظة أننا لا نتّبع الترتيب التاريخى من الأقدم إلى الأحدث فى إيراد تلك الروايات:
الرواية الأولى أورَدَها الكاتب الصحفى المصرى “حافظ محمود” (1907 – 1996)، المُلَقَّب بـ(شيخ الصحفيين)، فى كتابه “المعارك فى الصحافة والسياسة والفكر 1919-1952″، الصادر عن سلسلة “كتاب الجمهورية” عام 1969.
ويذهب “حافظ محمود” فى هذه الرواية إلى أن أول مشاركة نسائية سافرة فى الثورة كانت عام 1921، فى الاحتفال الذى نظمته السيدات لاستقبال “سعد زغلول” عند عودته من الخارج؛ إذ يقول: “… فى هذا الاحتفال الذى لم يحضره من الرجال إلا “سعد زغلول” وحده – خرجت السيدات سافرات لأول مرة وأقمن المظاهرات النسائية لأول مرة. كانت المظاهرة الأولى بقيادة هدى – هانم – شعراوي، وقد أزعجت هذه المظاهرات سلطات الأمن، فاعترض طريقها الحاكمدار الإنجليزى بقواته ولما رأى إصرار السيدات على متابعة السير فى مظاهرتهن قال لسيدات الصف الأول فى المظاهرة: إننى أرجو ألا تضطرننى لاستخدام السلاح.. فتقدمت منه السيدة هدى شعراوى وأشاحت من وجهها ما بقى من نقابها قائلة: أنا حرم شعراوى باشا فإذا أردت أن تطلق النار فإنه يشرفنى أن أكون أول شهيدة”.
حافظ محمود
غير أن ما ذكرته “هدى شعراوي” بنفسها، فى روايةٍ ثانية يخالف الرواية السابقة من وجوه كثيرة؛ ويتضح ذلك من خلال مقالٍ كتبته بعنوان “من أعياد المرأة”، أعيد نشره فى ذكرى وفاتها الأولى، فى كتاب بعنوان “ذكرى فقيدة العروبة”، ضم الخطب والأشعار التى ألقيت بحفلة تأبينها بدار “الاتحاد النسائى المصري”، مساء يوم الجمعة 30 يناير 1948.
فقد ذكرت “هدى شعراوي” فى هذه الرواية بوضوح أن مَن واجهها كان جنديًا بريطانيًا عاديًا، ولم تذكر الحكمدار بتاتًا، كما لم تُشِر من قريب أو بعيد إلى أنها أزاحت النقاب، بل على العكس، يتضح من سياق روايتها أن الإطار العام للمظاهرة النسائية التى تزعمتها كانت تَرينُ عليه تحفظات التقاليد والعُرف فى أكثر من تفصيلية.
غلاف كتاب تأبين هدى شعراوي
ويبدو أن “حافظ محمود” خلط بين بعض الأحداث التى تزعمتها “هدى شعراوي” عام 1919، وبين موقفها من اعتقال “سعد” عام 1921؛ وهو ما يُستَشَفّ من مقالٍ بعنوان “الوطنية العظيمة”، كتبه “إدجار جلاد”، ونُشِرَ فى جريدة “الزمان” بتاريخ 13 ديسمبر 1947، أى فى اليوم التالى لوفاة “هدى شعراوي”؛ حيث يرد فى مقال “جلاد” أنه زارها فى منزلها فى 20 ديسمبر 1921، ليجدها جالسة إلى مكتبها، تكتب بقلم ذهبى رسالة إلى اللورد “أللنبي” تتضمن احتجاجًا على نفى “سعد زغلول”، بينما تدور فى الخارج مظاهرة يتساقط فيها القتلى والجرحى، من المتظاهرين الذين حاولوا اقتحام ثكنات قصر النيل لتخليص “سعد”.
أما الرواية الثالثة، فقد وردت فى مقالٍ ثانٍ بعنوان “من مذكرات صحفي: أوراق منسية: النقاب الأول”، بقلم “إحسان عبد القدوس”، نُشِرَ كذلك فى جريدة “الزمان” بتاريخ 8 يناير 1948، وهى رواية يتضح معها أن حادثة خلع “هدى شعراوي” لحجاب وجهها كانت عام 1920، ولم تكن لها علاقة بمظاهرات 1919، بل كانت على متن الباخرة التى عاد عليها “سعد زغلول” من منفاه.
كما يتبيّن من هذه الرواية الثالثة أنها لم تكن المرة الأولى التى تخلع فيها “هدى شعراوي” الحجاب؛ إذ سبقتها مرات كثيرة فى أوربا، لكنها كانت المرة الأولى التى تواجه فيها علنيًا حشدًا كثيفًا من المصريين. وفى ذلك يقول “إحسان عبد القدوس”: “كانت المغفور لها السيدة هدى هانم شعراوى أول سيدة مصرية رفعت عن وجهها الحجاب، وقد سألتها مرة فى 20 مارس عام 1943 عن شعورها عندما ظهرت سافرة الوجه بين الرجال لأول مرة، فأجابت رحمها الله: كنت قد تعودت أن أرفع الحجاب كلما سافرت إلى أوربا، وكانت الدعوة موجهة إلينا من الاتحاد النسائى البريطاني، فاكتشفت أننا دعينا للتشهير بنا وإظهار بشاعتنا وهمجيتنا أمام نساء العالم إلا أننا عندما بدونا سافرات بين أعضاء المؤتمر صاحت كل الموجودات: إنكن لستن مصريات. قلنا: لِمَ؟ قلن: إن لكن وجوهًا مثل وجوهنا! ثم التفتت إحداهن إلى السيدة الجليلة نبوية موسى وقالت: ربما كانت هذه مصرية؟ واستطردت عصمتها فى حديثها فقالت: أما كيف رفعت الحجاب فى مصر، فكان ذلك عام 1920، وكنت عائدة من فرنسا بصحبة ابنتى وزوجها على نفس الباخرة التى عاد عليها سعد زغلول، وحينما وصلنا إلى الميناء استأذنت زوج ابنتى فى أن أنزل أنا وابنتى إلى الجموع الزاخرة المحتشدة لاستقبال سعد، سافِرَتَى الوجه، فأذن لنا، ورفعنا النقاب وقرأنا الفاتحة ثم خطونا على سلم الباخرة مكشوفتى الوجه. وتلفتنا لنرى تأثير الوجه الذى يبدو سافرًا لأول مرة بين الجموع، فلم نجد له تأثيرًا أبدًا، لأن كل الناس كانوا متوجهين نحو سعد متشوقين إلى طلعته!
ومن يومها رفعتُ الحجاب وانضمت إلَى كثيرات من فضليات السيدات، ولكن الجرائد بدأت تهزأ بنا إلى حد جاوز اللياقة، وكنا كلما خرجنا سافرات إلى الطريق أشار إلينا الناس وتهامسوا حولنا وضحك بعضهم هازئًا، وشتم البعض الآخر غاضبًا، وكنت أتحمل كل ذلك صابرة متحدية. ولكن كثيرًا من السيدات لم يستطعن أن يتحملن ما تحملته، فعدن يختفين وراء النقاب.
وقالت لى عِصمَتُها أن كريمتها السيدة بُثْنة هانم شعراوى كانت أول سيدة مصرية تقدمت إلى المغفور له الملك فؤاد سافرة الوجه وفى مجتمع رسمي. وكان ذلك عام 1925 عندما أقام زوجها المرحوم محمود باشا سامى حفلة تكريم لوزير أمريكا المفوض فى مصر شرفها الملك فؤاد بحضوره”.
إلا أن هذه الرواية، الثالثة، الواردة فى مقال “إحسان عبد القدوس”، تختلف تمامًا عن رواية رابعة، كانت قد نُشِرَت فى حياة “هدى شعراوي”، قبل خمس سنوات من نشر مقال “إحسان”، وتحديدً بتاريخ 12 مارس 1943، بمجلة “المصور”، وهو مقال يكتسب أهمية خاصة؛ بالنظر إلى أنه مكتوب بقلم “هدى شعراوي” نفسها، بعنوان “أول برقع ارتفع عن وجه المصرية”، مع عنوان فرعى من المجلة نصه: “بقلم زعيمة النهضة النسائية السيدة هدى شعراوي”. وهذه الرواية تجعل من عام 1923، وليس عام 1920 تاريخًا لواقعة إزاحة البرقع، كما تجعلها فى أعقاب المشاركة فى المؤتمر النسائى الدولي، وليست بمناسبة عودة “سعد زغلول”.
ترويسة مقال هدى شعراوي
وفى هذا المقال، تسرد “هدى شعراوي” موجزًا لمسيرة “الاتحاد النسائى المصري”، بدءًا من الفكرة التى أوحت لها بتأسيسه، وانتهاءً بواقعة رفع البرقع – لاحظ هنا استخدامها الدقيق لكلمة “برقع”، وليس لكلمة “حجاب”، التى شاع ذكرُها فى الروايات اللاحقة والمعاصرة، التى تنسب إليها (نزع الحجاب) – حيث تقول: “وفى سنة 1920 جاءتنى دعوة من الاتحاد النسائى الدولى لحضور مؤتمره فى سويسرا ففكرت مع بعض السيدات المصريات فى السفر إليه، ولكن ظروف الحركة الوطنية لم تساعدنى على إجابة الدعوة.
ثم كان المؤتمر الثانى فى رومة سنة 1923 فجاءتنى الدعوة للحضور، فاعتزمت السفر أنا ولفيف من الآنسات والسيدات المصريات وسافرنا فى ذلك الحين وكنا ثلاثًا، فلما وصلنا إلى المؤتمر قوبلنا أسوأ مقابلة، فقد كانت الإيطاليات وبعض الأجنبيات ينظرن إلينا نظرتهن إلى الزنجيات، وكن يعجبن بأننا مصريات.
وعدنا إلى مصر بعد انتهاء المؤتمر، ففكرنا أنا والآنسة سيزا نبراوى فى القطار المتجه من الإسكندرية إلى مصر أن نخلع البرقع ففعلنا، وقابلنا على المحطة الذين كانوا فى استقبال الرجال والنساء بهذا السفور، فلم نجد منهم استنكارًا.. وفى هذا العام نفسه تألف الاتحاد النسائى المصرى وأسسنا داره….”.
هدى شعراوى وسيزا نبراوى فى مؤتمر عام 1923
غير أن مذكرات “هدى شعراوي”، التى نُشِرَت عام 1981، تضمنت وقائع رواية خامسة، مختلفة عما سبق وروده فى مقالة “إحسان عبد القدوس”، وفى مقالة “هدى شعراوي” السابقة؛ إذ ذكرت هذه الرواية الخامسة أنها خلال عودتها على متن نفس الباخرة التى أقلت “سعدًا” إلى مصر من منفاه، دار بينها وبين “سعد” حوار حاد، بسبب اختلافها معه فى الرأى حول مسألة سياسية، تتعلق بتنازل حكومة “محمد توفيق نسيم” عن السودان. وفى أثناء عرضها لتفاصيل النقاش، ذكرت ما يلي: “وبعد ذلك دار الحديث فى موضوعات أخرى، وقد بدأ يهنئنى على توفيقى فى الوصول إلى رفع الحجاب وكيفية عمل الحجاب الشرعى الذى أرتديه، وقال: إنه قد سُرَّ عندما رأى صورتى بهذا الزى الجديد فى منفاه، ثم طلب من السيدة حرمه أن تقلدني، فوعدت بذلك”. ثم توالى ذكر هذه الواقعة بقولها: “صعدت إلى ظهر الباخرة للنزول، وإذ بصفية هانم تقابلنى ببرقعها وملاءتها.
فقلت لها: «أين وعدك لسعد باشا بارتداء الإزار الشرعي؟» فقالت: «أنا ليس لى زوج واحد … واصف باشا غالى استحسن ألا أغير زيى حتى لا أحدث تأثيرا سيئًا فى المستقبلين» … فعجبت من ذلك، وصافحتها، ونزلت إلى اللنش الذى كان فى انتظاري…”.
وكما يظهر بوضوح تام من هذه المذكرات، فهى لم تتحدث أبدًا عن التفاصيل المتعلقة بابنتها وزوجها، كما يظهر من سؤال “سعد” لها عن الحجاب أنها نزعته فى وقت سابق، وليس فى أثناء نزوله من الباخرة كما ورد فى مقال “إحسان”. أما أبرز ما يستوجب التأمل فى هذا الجزء من المذكرات فيتمثل فى حكايتها لرفض “واصف غالي”، رغبة “صفية زغلول” فى رفع الحجاب- برغم تعزيز “سعد” لذلك – بداعى التحرُّج من رد فعل المستقبلين، وأن تنصاع “صفية زغلول” لرأى “واصف غالي”، لا لرغبتها الشخصية التى يدعمها رأى زوجها، زعيم الثورة!
يُلاحَظ كذلك فى هذه الرواية وصف “هدى شعراوي” للزى الجديد الذى ترتديه بأنه “الحجاب الشرعي”، وهى ملحوظة بغاية الأهمية؛ إذ إنها توضح أولًا أن ما وُصِفَ بنزع الحجاب – وما زال يوصَف بذلك حتى الآن – لم يكن خلعًا تامًا له من قِبَلها، بل مجرد نزع لنقاب الوجه (البيشة)، وأنها ظلت مداومة على ارتداء نمط مختلف من أنماط الحجاب الذى تصفه بالشرعي. أما أهم ما فى هذه الملحوظة فهو كونها توحى بأن وصف “الشرعي” ربما كان مؤسَّسًا على استفتاء بعض رجال الدين، أو على أقل تقدير هو وصف مبنى على بحث سابق فى هذا السياق، استطلَعَت من خلاله مواصفات الحجاب وفقًا لبعض مصادر الشريعة، أو وفقًا لآراء فقهية ما، وأنها استبدلت بحجابها السابق، المزود بنقاب الوجه، حجابًا جديدًا تصفه بـ”الشرعي”.
وللمرة السادسة، تتعارض روايات المصادر الوثيقة الصلة بـ”هدى شعراوي”، فى تأريخها للتوقيت الفعلى لحَدَث نزع النقاب، وكذلك فى علاقته بسياقَى ثورة 1919 والتأسيس للحركة النسائية المصرية. فوفقًا لـ”سنية شعراوي”، حفيدتها، فى كتابها المُعَنوَن Casting off the veil: The life of Huda Shaarawi Egypt’s first feminist، الصادر فى لندن عام 2015، والمترجَم إلى العربية تحت عنوان “وكشفت وجهها: حياة هدى شعراوى أول ناشطة نسائية مصرية”، فى طبعة صادرة عن المركز القومى للترجمة عام 2019، من ترجمة نشوى إيهاب الأزهري، ومراجعة وتقديم طارق النعمان، نجد فى الصفحات من 178 إلى 184، سياقًا مختلفًا تمامًا لهذا الحدث؛ إذ يعود به لعام 1923، لا لعام 1919، ولا لعام 1920 كما ذكرت فى لقائها مع “إحسان عبد القدوس”، ولا لعام 1921 – وفقًا لتاريخ عودة “سعد” – كما ورد فى مذكراتها.
وبرغم اتفاق هذه الرواية مع الرواية الرابعة، التى حددت فيها “هدى شعراوي” عام 1923 تاريخًا للواقعة، على أثر المشاركة فى المؤتمر النسائى الدولي، فقد اختلفت عن سابقتها فى تفاصيلها الدقيقة، وكذلك فى توضيح حالة الترَدُّد التى صاحبت الفكرة، واضطرار “هدى شعراوي” للتأكد من كونها لن تؤدى إلى (فضيحة) – بحسب التعبير الوارد فى الطبعة العربية للكتاب – وأنها بالتالى لن تدمر حياة ابنتها الاجتماعية أو زواجها، ولجوئها فى حسم ذلك التردد وتلك الهواجس لاستطلاع رأى زوج ابنتها أولًا. كما اختلفت هذه الرواية عن الرواية الرابعة فى توضيح الدور الذى لعبته “نبوية موسى” فى الإعداد لترويج الواقعة إعلاميًا على أوسع نطاق. كذلك فقد اختلفت هذه الرواية السادسة عن سابقاتها فى نفيها لأية صلة بحَدَث خلع النقاب بمظاهرات 1919 أو عودة “سعد زغلول” من منفاه.
ويتضح من سياق الرواية أن كلًا من “هدى شعراوي” و”سيزا نبراوي” كانتا تشاركان فى وقائع المؤتمر وهما ترتديان الملابس الغربية، وتتحدثان الفرنسية. ثم تتناول الصفحتان 183 و184 تفاصيل خلع النقاب على النحو التالي: “لقد تولد قرار هدى وسيزا بخلع النقاب عند عودتهما إلى القاهرة بشكل طبيعى من خبرتيهما فى روما. فقد كانت المندوبات الثلاث تكشفن وجوههن أثناء جلسات المؤتمر، بعد أن أدركن أن الوجه المغطى عائق أمام التواصل ويحدّ بالتالى من فعالية عملهن…. وخلال رحلة العودة، وحين أثيرت مسألة النقاب، أصرت سيزا على أنها ستبقى منذ تلك اللحظة بلا نقاب. وكانت هدى قد وعدت فى الماضى بخلع النقاب حين يكون الوقت ملائمًا لذلك. وبدت هذه اللحظة هى الملائمة. لقد ظهرن بوجوه مكشوفة أمام الجميع فى المؤتمر وعليهن إذن أن تعُدْن بكل فخر إلى البلاد ووجوههن مكشوفة تمامًا. وأكدتا سويًا أن المسألة ستكون ضربًا من النفاق إن لم تفعلا. وبدت الحجة مقنعة ومنطقية. غير أن هدى ظلت تشعر بأن عليها أن تطمئن أولًا بأنها لن تدمر حياة ابنتها الاجتماعية أو زواجها من خلال القيام بمثل هذه الخطوة الثورية.
وصلت الباخرة إلى الإسكندرية فى 28 مايو 1923. وكان محمود سامي، زوج ابنة هدى قد جاء للترحيب بعودتها. وحينما صعد على الباخرة، تحدثت معه عن خطتها لنزع النقاب حتى تطمئن أن فعلها لن يمثل له فضيحة. وكانت سعادتها غامرة لموافقته على خطتها. وقال لها إنه يعتقد أنه قد آن الأوان لاتخاذ تلك الحركة فى مصر. وأن سمعة هدى التى لا غبار عليها سوف تضفى الشرعية على هذه الحركة. وكانت نبوية موسى قد نظمت تغطية إعلامية لعودة السيدتين لكى تكون حدثًا يحظى بأقصى قدر من الانتشار. وقابلهما مراسل من الأهرام فى الإسكندرية ورافقهما بالقطار إلى القاهرة. وفى محطة القاهرة، نزلتا من القطار مكشوفتى الوجه وواجهتا لحظة من الصمت المذهول، أعقبها قيام كل النساء من دائرتهما، واللاتى جئن للاستقبال بنزع نقابهن. كان المشهد رائعًا ووصفه كل من حضره بحماس فى الأيام التالية”.
وكما هو واضح فى ختام هذه الرواية السادسة، فهى تختلف كذلك اختلافًا جوهريًا عما سبق وروده فى حديث “هدى شعراوي” المنشور فى مقال “إحسان عبد القدوس”؛ إذ فى مقابل ما سبق التصريح به من أن ظهور “هدى” وابنتها مكشوفتَى الوجه على سلم باخرة تُقل “سعد زغلول”، لم يُعِره أحدٌ أى انتباه! نجد فى الرواية الأخيرة استقبالًا مذهولًا، ورد فعلٍ استتبع مجاراة نساء أخريات لهن فى ذلك، فضلًا عن الخلاف الواضح، فى أن مَن صاحبتها فى كشف الوجه لم تكن ابنتها، بل كانت “سيزا نبراوي”.
أما “مصطفى أمين”، فيورد رواية سابعة، تختلف جذريًا عن كل ما سبق؛ إذ هى رواية تنسب الفضل فى نزع الحجاب إلى “صفية زغلول”، مُغفِلةً ذكر “هدى شعراوي” تمامًا، بل إنه يلمح فيها إلى أن نساء مصر قد تابعنها فى ذلك، وأن ذلك هو ما أدى لخروج المرأة المصرية من الحريم لأول مرة.
والرواية بتمامها كما أوردها “مصطفى أمين” فى الجزء الثانى من كتابه “الكتاب الممنوع أسرار ثورة 1919″، الصادر ضمن سلسلة “كتاب اليوم”، عن “دار أخبار اليوم” عام 1991، جاءت كالتالي: “وفى سنة 1921 عاد سعد من منفاه. واستقبلته مصر استقبال الغزاة الفاتحين. وكانت معه صفية زغلول. وقبل أن تصل الباخرة إلى الإسكندرية سألت صفية زوجها: ألم يحن الوقت لكى أنزع “البرقع الأبيض؟”. والتفت سعد زغلول إلى شابين من أنصاره هما واصف غالى وعلى الشمسى وسألهما رأيهما. فعارضا أن تبدأ صفية زغلول بنزع حجابها! وقال سعد زغلول: هذه ثورة! ارفعى الحجاب!
ورفعت صفية الحجاب… وظهرت أمام الجماهير لأول مرة بوجه مكشوف.. وإذا بنساء مصر يرفعن حجابهن أيضًا! وبذلك خرجت المرأة المصرية من “الحريم”. بعد ألوف السنين من الحجاب!”.
غير أن رواية “مصطفى أمين” تتعارض مع صورة تذكارية، تظهر فيها “صفية زغلول” وهى شبه سافرة الوجه، بينما تسير فى الطريق، محاطة بنساء ورجال، وهى فى طريقها للباخرة التى ستُقِلُّها إلى “جبل طارق”، حيث منفى “سعد”، أى قبل التاريخ الذى يحدده “مصطفى أمين” بشهور طوال. وقد نُشِرَت هذه الصورة بمصاحبة مقال لـ”طاهر الطناحي”، عنوانه “مهرجان المرأة المصرية: الحركة النسائية فى مصر وكيف تطورت فى السنين الأخيرة”، نُشِرَ فى مجلة “المصور” بتاريخ 16 إبريل 1943، بمناسبة مرور 20 عامًا على تأسيس الاتحاد النسائى المصري.
أم المصريين شبه سافرة فى طريقها لجبل طارق
الغريب أن “مصطفى أمين” كان قد أورد رواية ثامنة، مختلفة تمامًا فى تفاصيلها عن روايته السابقة – وإن يكُن محورها كذلك ريادة “صفية زغلول” لأول واقعة سفور علنية – وهى رواية نُشِرَت قبل سابقتها بحوالى سبع سنوات، فى كتابه المُعَنوَن “مسائل شخصية”، الصادر عن دار تهامة بالمملكة العربية السعودية عام 1984.
وكانت هذه الرواية الثامنة – مع الاختصار – على النحو التالي: “ولم يكن سعد يُعِدُّ زوجته لكى تكون زعيمة، بل أعدها لتكون زوجة شرقية بمعنى الكلمة، وعندما بنى بيته فى شارع سعد زغلول فى حى الإنشاء بالقاهرة بنى “سلاملك” ليستقبل فيه الرجال من باب خاص لهم، بينما تدخل السيدات من باب آخر إلى صالونات خاصة بهن.
وعلى الرغم من أن صفية زغلول كانت تضع البرقع الأبيض على وجهها، إلا أنها كانت تسافر مع زوجها إلى أوربا كل صيف، وهناك تخلع الحجاب وتمشى سافرة.
وكان الشيخ محمد عبده وقاسم أمين محرر المرأة أقرب أصدقاء سعد، فكان سعد يدعوهما ليتناولا الغداء أو العشاء فى حضور زوجته، وكانت صفية تتحدث أحيانًا مع سعد فى الكتب الفرنسية التى قرأتها، وكان لها مكتبها الخاص بجوار غرفة نومها….
وقبض الإنجليز على سعد زغلول وفى يوم وليلة تبدلت القطة الوديعة إلى نمرة مفترسة، السيدة الخجولة أصبحت امرأة جريئة، بنت رئيس الوزراء صديق الإنجليز أصبحت بنت الشعب عدو الإنجليز، الزوجة المطيعة أصبحت زعيمة ثائرة!
…. وجاء أعضاء الوفد جميعًا إلى بيت سعد زغلول، واجتمعوا فى نفس مكتب سعد، وقالت صفية إنها تريد أن تقابلهم فوقفوا جميعًا فى شرفة السلاملك وفتحت هى باب غرفة الطعام وواربت الباب ووقفت وراءه وحدثتهم بحماس وطالبتهم بالصمود والثبات وإشعال الثورة فى كل مكان كما اتفق معهم سعد زغلول.
وفى أول يوم لم ير أعضاء الوفد وجه صفية زغلول فقد كانت مختفية وراء الباب. كل ما سمعوه هو صوتها…
وفى اليوم التالى فتحت باب غرفة الطعام وواجهت أعضاء الوفد، ولأول مرة رأوا وجهها، وكانت غير محجبة…
وفى اليوم الثالث خرجت إلى شرفة السلاملك وخطبت فى الجماهير ودعتهم أن يتحدوا الإنجليز، وقالت لهم: إن الإيمان قادر على أن يهزم المدافع والرصاص!
وهكذا فى ثلاثة أيام تحولت من “حريم” إلى زعيمة ثورة! وأصبحت تكتب المنشورات الحماسية ضد الإنجليز وتوقعها بإمضائها “صفية زغلول”.
فوفقًا لهذه الرواية الثامنة، يكون ظهور “صفية زغلول” سافرةً أمام الجماهير، فى اليوم الثالث من استعلان ظهورها العام، بعد القبض على سعد زغلول فى 8 مارس 1919، ويكون هذا الحدث سابقًا لجميع روايات سفور “هدى شعراوي” العلنى بعدة سنوات، أو على الأقل مُزامنًا لأقدم تلك الروايات، كما يتضح من الرواية التاسعة.
ثم تأتى رواية تاسعة، لتضفى مزيدًا من التفاصيل الدالّة إلى الروايات الخاصة بنزع الحجاب فى سياق ثورة 1919، وبخاصة تلك الروايات التى تذهب لتصوير الحدث خلال المظاهرة النسائية، تحت تهديد القوات الإنجليزية بفتح النار على السيدات.
وسبب أهمية هذه الرواية، أن صاحبها هو الحكمدار الإنجليزى نفسه، الذى تنسب له بعض الروايات المصرية تهديد “هدى شعراوي” بفتح النار، وهو “توماس راسل” باشا Sir Thomas Wentworth Russell (1879 – 1954)، الذى أورَد هذه الرواية ضمن مذكراته، التى نُشِرَت لها ترجمة عربية عام 2020 بعنوان “النسخة النادرة من مذكرات توماس راسل”، عن دار الرواق للنشر والتوزيع، من ترجمة مصطفى عبيد.
وتنطوى رواية “راسل” على عدة إشارات مهمة، تستوجب إعادة النظر فيما رُوِى حول هذه الواقعة؛ وأولى هذه الإشارات تتمثل فى ذكرِه أن قائدات المظاهرة النسائية، كُنّ قد التقين به سابقًا فى مقر القيادة العامة، كى يأذن لهن بتنظيم المظاهرة، وأن طلبهن قوبل بالرفض، لتوَجُّس الإدارة البريطانية من اندساس بعض الشباب فى المظاهرة النسائية. أما الإشارة الثانية، فتتمثل فى توضيحه أن أغلب أفراد القوة التى أحاطت بالمظاهرة النسائية كانت من الشرطة المصرية، مع قليل من القوات البريطانية للمساندة. ثم تأتى الإشارة الثالثة فى تصويره لنقاشه مع “هدى شعراوي”، بأسلوب يخلو تمامًا من فكرة التهديد بفتح النار المذكورة فى بعض الروايات المصرية السابقة، وبما يوضح احترامه لها، ومعرفته الوثيقة بأصلها العائلى العريق، بل وعلى نحو يوضح رغبة بقية السيدات فى الحديث مع الحكمدار!
أما الإشارة الرابعة، والطريفة، فتتمثل فى إلماحِه إلى غيرة قائدات المظاهرة، بسبب تركيزه الحديث مع “هدى شعراوي”، إلى أن أتت الإشارة الخامسة موضحةً أن المظاهرة قد انفَضّت سلميًا بفعل عدم احتمال السيدات لحرارة الشمس خلال ذلك اليوم؛ وهو ما جاء فى المذكرات على النحو التالي: “… لم يمر وقت طويل حتى علمنا أن السيدات تركن عرباتهن ومشين تجاه منزل الزعيم الوطنى سعد باشا زغلول. ومع توقُّع هذا التحرك وضعت كردونات من الشرطة جاهزة لكن خارج المشهد بجوار الشوارع الجانبية ومعها بعض القوات البريطانية المساعدة. وعند إشارة محددة أغلقت الكردون لتجد السيدات المتظاهرات أنفسهن أمام طريق مغلق بصف من عساكر الشرطة المصريين، الذين تم تحذيرهم مسبقًا من استعمال العنف، وأن كل ما عليهم فعله هو الوقوف فى وضع الاستعداد، وفى حال الضرورة فإن عليهم رسم ملامح الغضب على وجوههم فقط. لقد استخف رجالى بفكرة أن تقوم النساء بهجوم ما وتصوروا أن الأمر مجرد اختبار من الإدارة لمستوى استعدادهم. وظهرت فى المشهد لأجد سيدتين من اللاتى قابلتهن فى مقر القيادة تتشاجران مع الشرطة. وأوضحت لإحداهما أنها سبق أن تم إخبارها من خلالى باسم القيادة العامة أنه لن يتم السماح بأى مسيرات، وأنهن فى حال الإصرار على تنظيم المظاهرة، فسيصبحن فى حالة عصيان للقائد العام.
لقد كان لى معرفة مسبقة بهذه الفتاة الشابة المصرية التى اعتُبرت فى زمنها عصرية، وكانت على قدر شديد من الاحترام وتنتمى إلى عائلة عريقة، وقمت بتقديم نفسى لها والتحدث معها، وبسرعة لمحت آثار الغيرة على وجوه باقى النساء الجميلات المشاركات فى المسيرة واللاتى أردن جميعًا الحديث فى الوقت ذاته، قبل أن يستعيدوا حماسهن اقتداء بالفتاة التى اتخذت موقع القائد الأعلى. وهكذا أقنعتهن، من خلال مناقشة مستفيضة، وأخبرتهن أن كل ما أستطيع فعله هو الالتزام بأوامر قائدى الأعلى….
… وشغلت نفسى بأمور كثيرة ولم أعُد إلى النساء إلا بعد مرور ساعة بعد وقوفهن فى نهار صيفى شديد الحرارة، وخلو الشارع من أى ظلال تطفئ شعاع الشمس الحارق، فضلًا عن خلوه من مقاعد يمكن الجلوس عليها؛ إذ لم تكُن هناك سوى المقاعد الحجرية الساخنة صيفًا. وحاولت بعض الشجاعات منهن الدخول فى مجادلات، لكننى اعتذرت لهن عن التأخر وقلت إن الرد النهائى للقائد العام هو عدم السماح للمسيرة بالمرور، وكان باديًا على الغالبية القنوط والإنهاك بسبب حرارة الطقس وطول الوقوف. وقدمت نفسى لبعض النسوة الملوحات وقلت لهن إننى يمكن أن أستدعى عرباتهن مرة أخرى إن أردن، وكنت قد أبقيتها بالفعل خلف الكردون، وكان رد الفعل إيجابيًا، وبالفعل طلبَت كثيرات استدعاء العربات أو السيارات التى جئن فيها، لتقلَّهن بالاثنتين والثلاث، مخلفات وراءهن بعض المناديل الورقية الممتصة لعرقهن…”.
غير أن الرواية العاشرة، وهى رواية شديدة الشَطَط والتحامُل، مُتداولة فى بعض المصادر المعاصرة، ويظهر منها بوضوح أنها تنطوى على موقفٍ سلبى من شخصية “هدى شعراوي”، تذهب بعيدًا فى تصوير هذه الواقعة على نحوٍ مُبالغٍ، يفتقر إلى الأسانيد والشواهد الكفيلة بتَقَبُّلِه، فضلًا عن اشتماله على خطأ جسيم فى تحديد مكان الواقعة نفسها.
ومن المصادر التى أورَدَت هذه الرواية: كتاب بعنوان “أعلام وأقزام فى ميزان الإسلام”، جمع وترتيب “سيد حسين العفاني”، وهو من إصدارات دار ماجد عسيرى للنشر والتوزيع بالمملكة العربية السعودية، ونُشِرَت طبعته الأولى عام 2004.
وتَرِد هذه الرواية فى الكتاب المذكور، فى الصفحتين 104 و105 على النحو التالي: “فى ذلك الجو العاصف انبرت هدى ورفيقاتها للدفاع عن حقوق الوطن وطرد المحتلين، ولكن بماذا؟ لقد خرجن فى مظاهرة ومزقن الحجاب وأحرقنه فى ميدان عام، وكان هذا أعظم إسهام منهن فى الثورة، وإذ حدث أن الجنود البريطانيين – لحاجة فى نفس يعقوب- طوقوا الشوارع ساعة المظاهرة واعتدوا على بعض المتظاهرات- فقد بدا ذلك فى أعين الشعب محاولة من بريطانيا لمنع المرأة المصرية من التحرر، وبذلك اكتسبت الحركة صفة البطولة الوطنية!!”
والواقع أننى لن أناقش الادعاء الوارد فى هذه الرواية عن مسألة تمزيق الحجاب وإحراقه، فهو ادعاءٌ لا يشفع له أى سَنَدٍ مرجعيٍ، فى أى من المصادر الأصلية التى عاصرت هذه الواقعة ورصدتها رصدًا مباشرًا، فضلًا عما يشوبه من مبالغة واضحة لا تتوافق مع تقاليد المجتمع وقتها، وتتصادم مع المصادر الموثوق بها، التى أرَّخَت تفاصيل المظاهرات والمسيرات خلال اندلاع ثورة 1919.
غير أن ما أتوقف عنده هنا، هو التحديد الخاطئ لمكان الواقعة بكونه “ميدان التحرير”؛ إذ يشير المؤلف لذلك بتعليقٍ له فى الهامش يقول فيه: “ولماذا يمزقن الحجاب، وهل بتمزيق الحجاب يطرد المحتل، وانظر إلى تسمية الميدان “بميدان التحرير”!! التحرر من أى شيء!! وكم ذا بمصر من المبكيات؟!”. فكما هو واضح لم يكن لميدان التحرير أى صلةٍ بأية واحدةٍ من الروايات السابقة – على اختلافها – حيث انحصرت الأماكن المتواتر ذكرُها فى محطة قطار القاهرة، وميناء الإسكندرية، والشوارع المحيطة ببيت الأمة، وسلاملك بيت الأمة.
الآن، وقد استعرضنا تلك الروايات العَشر، بما تضَمَّنَته من وقائع، وتواريخ، وشخصيات، وتفاصيل، انطَوَت على اختلافاتٍ سبق تفصيلُها، فإننى أعتقد أن هذه الواقعة الحاسمة فى تاريخ الحركة النسائية المصرية، تقتضى أن يتوفّر على دراستها بدقةٍ ثُقاة المتخصصين فى فروع التاريخ المصرى الحديث، والدراسات النسوية، والوثائق، والاجتماع، وما يتصل بها ويناظرها من تخصصات ومجالات بحثية، للوقوف على أسباب تلك الاختلافات، وترجيح أكثرها دقة، وتحقيق أصوب النصوص والمصادر التى اشتملت عليها.
وأعتقد أن الرواية العاشرة، تؤكد مدى حاجتنا إلى مثل هذا العمل البحثى – لا فى واقعة السُفور فحَسب، بل فى أى واقعةٍ تاريخيةٍ تنطوى على تعَدُّدٍ فى الروايات – حتى نتدارك أمثال تلك الرؤى السلبية، التى باتت تتخذ من تاريخ مصر الحديث مادةً لتمرير تخيُّلاتٍ مشفوعة بمواقف أيديولوجية أحيانًا، وناتجة عن ضعف التَتَبُّع البحثى الجاد أحيانًا أخرى، وهو ما ينتج عنه فى نهاية الأمر ركام من المصادر والنصوص المعاصرة، التى صارت تعج بها المكتبات، وتغص بها المواقع الإلكترونية، ومواقع التواصل الاجتماعي، محاوِلةً طرح نفسها بديلًا لحقيقة ما جرى وما كان، وتقديم صُور ملتبسة أحيانًا لرموزنا وأعلامنا من أفذاذ مصر.
اكتشاف المزيد من موقع الدكتور العتيبي
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.