فاطمة الصعيدى تكتب: الثقافة المصرية سيرة أخرى كما يروها شعبان يوسف.. دراسة فى خطاب العرض
إن كتاب “الثقافة المصرية- سيرة أخرى-” يمكن اعتباره سيرة غيرية، أى أن المؤلف يستعرض صفحاتٍ من التاريخ الثقافى المصرى عبر استدعاء الشخصيات والمواقف والحوادث التى شكلت هذه الجدارية العظيمة التى إليها ننتمي، على جانب آخر يمكن اعتبار هذا الكتاب جزءًا من سيرة ذاتية للمؤلف، إذ تشهد كثيرٌ من الفصول مواقف كان المؤلف مشاركًا فيها، شاهدًا على حدوثها. هنا نرى أن هذا الكتاب قد جمع بين نمطين من الكتابة: الكتابة بصدد الآخر، والكتابة بصدد الذات؛ فيجمع بين المرجعية والتعبيرية، أدى هذا الجمع إلى ثراء فى الرؤية والعرض بداية من الغلاف مرورًا بالمقدمة انتهاءً بفصول الكتاب فى جزءيه.
جاءت صفحتا الغلاف فى الجزأين معبرتين عن المحتوى، فقد زخر الغلافان بوجوه المبدعين الذين تضمنهما الجزءان، لكن ثمة ملاحظة أن غلاف الجزء الثانى تضمن أنصاف وجوه الأعلام الذين تضمنهم، كأنه استدراك على غلاف الجزء الأول؛ لأن الكتاب يروى سيرة أخرى للثقافة المصرية التى قد لا يعرفها كثيرون، لكن المؤلف سيزيل اللثام عن قصصها وحوادثها وبعض أعلامها الذين لم تعرفهم سوى دوائر صغيرة ممن حولهم، يحدثنا الكتاب عمن أثروا وعمَّقوا الوعي، وممن مرَوا دونما أن يتركوا شيئًا سوى الضجيج، أو مروا وتركوا جواهر أزيل عنها غبار التجاهل بعد رحيلهم.
فى هذا السياق نرى سببًا آخر لتأليف الكتاب أورده المؤلف، يقول الأستاذ شعبان يوسف: “لم تكن الثقافة المصرية فى العقود السابقة، إلا سلسلة من الصراعات والاشتباكات العنيفة، صراعات سلطات عديدة ومختلفة، وأحيانًا تصل إلى حد التناقض، وبالتالى التناحر…كان كثير من المثقفين والكتاب والمبدعين أهدافًا لتلك الصراعات… سيرة الثقافة المصرية لا تبتعد كثيرًا عن سيرة كتابها ومثقفيها.” نرى من خلال النص السابق أن المؤلف سيناقش سيرة الثقافة المصرية بكل تعقيداتها خلال عقود تبدأ من الأربعينيات حتى الآن بحثًا عن جواهر تحت الرماد، أو فك اشتباك أو سوء فهم نحو قضية معينة. هذا هو الهدف الذى يسعى إليه المؤلف، كما يسعى سعيًا حثيثًا لطرح الرؤى حول موضوع واحد؛ ليجد القارئ نفسه مكونًا الرأى حول سيرة الثقافة وسياقاتها المتقاطعة حينًا، والمشتبكة حينًا آخر.
بالتالى يصحبنا الأستاذ شعبان يوسف المثقف الكبير الذى أسس ورشة الزيتون الأدبية منذ عام 1979م، ما زال يسهم تأليفًا وتأثيرًا ومشاركة فى أوجه أنشطة الثقافة المصرية إلى الآن، صدرت له سبعة دواوين شعرية: “مقعد ثابت فى الريح”،”معاودات”، “كأنه بالأمس فقط”، “تظهر فى منامى كثيرًا”، “أكثر من سبب للعزلة”، “أحلام شيكسبيرية”،”1999″،وصدرت له مسرحية بعنوان “بقعة ضوء تسقط معتمة”. كما صدرت له كتب عديدة فى النقد والتاريخ الثقافى منها: “جيل السبعينيات.. الجيل والحركة”، “أدب السجون”، “ضحايا يوسف إدريس وعصره”، “لماذا تموت الكاتبات كمدًا”، “المنسيون ينهضون”، وغيرها من الكتب المهمة فضلًا عن المقالات التى تنشر فى المجلات والدوريات المصرية والعربية. فضلًا عن ذلك فهو الباحث الذى يغوص فى بطون الكتب القديمة والدوريات يستخرج منها الحوادث التى لا يعرفها كثيرون، مقدمًا لها، ومناقشًا أسبابها بحثًا عن قراءة أخرى تسهم فى رسم التاريخ الثقافى المصري.
حرص المؤلف على كتابة بضع صفحات قدم بها كلا الجزأين، فعنون مقدمة الجزء الأول بـ” قبل القراءة”. فى هذه المقدمة المختصرة قدم أسباب تأليفه للكتاب، قائلًا:” منذ شرعت فى الكتابة عن التاريخ الثقافى المصرى والعربى كان يشغلنى أمران بشكل واضح ورئيس: الأول يتعلق بالكتاب والمبدعين الذين أغفلتهم الرعاية والاهتمام تمامًا… هذا عصر شديد الخصوبة، وشديد التعقيد، وشديد الوضوح، وشديد الإبهام أيضًا، عصر ما بعد يوليو، هذا العصر الذى ظلًّ يشغلنى كلما تعرضت للكتابة عن شخصية من الشخصيات التى لعبت على خشبة ذلك العصر، وهذا هو الأمر الثانى الذى يجعلنى طوال الوقت حائرًا”. ثم إجابته عن تساؤل قد يطرحه بعض القراء: لماذا لم يأتِ ذكر لكاتبات أو مبدعات؟ وأجاب أنه بصدد طرح كتاب جديد بعنوان ” كاتبات ضد الإقصاء” وهو الجزء الثانى لـ”لماذا تموت الكاتبات كمدًا”.
فى الجزء الثانى لكتاب “الثقافة المصرية” فقد جاءت المقدمة بعنوان: “على سبيل التقديم” أوضح فيها المؤلف أسباب اختيار العنوان ومحاور الكتاب فى جمل مختصرة: “الكتاب يتناول شخصيات، كان وما يزال لها حضور نوعى فى الثقافة والإبداع والفكر المصري، أسهموا بقدر كبير فى إثراء المشهد الثرى للثقافة المصرية… كما تناولنا بعض القضايا التى رأينا أنها تحتاج إلى بعض من القراءة والتأمل” هنا نلمح المحور الجديد الذى اختص به المؤلف الجزء الثاني، هو مناقشة القضايا التى شكلت صورة الثقافة المصرية مثل: المعارك الأدبية التى كان لها دور فى المشهد الثقافي، معركة بين عبد القادر القط ويوسف إدريس حول اللغة، معركة الواقعية بين الدكتور مندور وأستاذه طه حسين، كما تناول فى الكتاب أيضًا ما يستجد على المشهد الثقافى مثل فصل بعنوان: “العبث فى عناوين نجيب محفوظ وعجائب الكتب”، وفصل: “مؤسسات المجتمع المدنى والثقافة فى مصر”، وفصل آخر بعنوان: “هل انتهى عصر المجلات الثقافية؟” وفصل بعنوان: “من يدافع عن الثقافة فى مصر وكيف ومتى؟”. فى الجزء الثانى قدم الأستاذ شعبان يوسف فصولًا خصصها لمبدعات أسهمن فى تشكيل المشهد الثقافي، فقد خصص فصلًا عنوانه “سلوى بكر ..جدارية سردية خاصة جدًا”، وفصلًا آخر عن رباب كمال، وفصلًا ثالثًا عن عنايات الزيات، ورابعًا عن راوية عبد العظيم، وخامسًا عن أمينة السعيد.
قدم الأستاذ شعبان يوسف عبر فصول كتابيه التى عنونها بأسماء مبدعين أسهموا بأدوار رائدة وأساسية فى إرساء أسس الثقافة المصرية وتعزيزها، من خلال هذه الأسماء قدم سيرة المناخ الثقافى الذى واكب سيرهم، وهو هنا يذكرنى بأبى الفرج الأصفهانى الذى قدم تراجم الشعراء من خلال الاحتفاء بأشعارهم التى تحولت إلى أغانٍ يرددها الوجدان العربي، فى هذا الكتاب جمع لشتات الثقافة المصرية المبعثر فى متون كتب وهوامش مجلات، جمعها الأستاذ شعبان يوسف ليعيد بهاءً كاد يزول جراء تجاهل، أو انصراف إلى شكل زائف وإغفال مضامين رصينة.
فى الجزء الأول من كتاب “الثقافة المصرية سيرة أخرى”، تناول الأستاذ شعبان يوسف شخصيات مهمة فى مسيرة الحياة الثقافية بدأها بعنوان مهم شغل الفصل الأول من الجزء الأول من الكتاب،”إبراهيم فتحى الناقد والمفكر المشتبك أبدًا”. حيث قدم الأستاذ شعبان يوسف سيرة إبراهيم فتحى الزاخرة بالأحداث والإنجازات النقدية والفكرية فى التأليف والترجمة. أما فى الفصول التالية فقد تناول شخصيات مؤثرة، لها دورها الريادى مثل “د.على الراعى وضمير الناقد والمسئول” ودوره المهم فى رصد هموم المسرح عبر دراسات أصيلة. وفى ذات السياق تناول الأستاذ محمود أمين العالم بين اليمين الهادر واليسار الساخر. كتب أيضًا عن إحسان عبد القدوس، صلاح عبد الصبور، يحيى حقي، سليمان فياض، عبد الحكيم قاسم، صنع الله إبراهيم، صبرى موسى، بهاء طاهر، سعيد الكفراوى وشلة المحلة، خالد محمد خالد، رجاء النقاش، جمال الغيطاني، فاروق شوشة وغيره كثير من الشعراء مثل عبد الرحمن الأبنودي، حلمى سالم، محمد إبراهيم أبو سنة، والقصاصين والروائيين مثل محمد حافظ رجب، إبراهيم أصلان، فتحى غانم. كما قدم فصلًا عنوانه “جولة حرة فى منحنيات نجيب محفوظ المستقيمة، حوى الكتاب أيضًا مقالات عن النقاد منهم د.زكى نجيب محمود، ود.سيد البحراوي. كما أنه أزال الغموض عن مبدعين أغفلهم الاهتمام مثل أحمد صادق سعد، زكى مراد، محمد الراوي، محمد متولي، وغيرهم؛ فيعيد ذكرهم بالكتابة عنهم، منصفًا لهم، ومبينًا لدور مهم قاموا به فى الثقافة المصرية.
عنون الأستاذ شعبان يوسف فصول كتابه فى الجزء الأول باسم العلم الذى تدور حوله الكتابة، كما وضع عنوانًا فرعيًا يكشف عن الزاوية التى سيتناولها فى تقديم الشخصية. إن العنوان الفرعى الذى يلى اسم العلم فى الجزء الأول من الكتاب يتضمن مسيرة حياة الشخص فى جملة تلخص ما تتسم به.
هذا الكتاب نموذج أصيل لخطاب العرض، وهو نوع من الكتابة يعرض فيه المؤلف أفكاره فى بناء منطقى متماسك، معتمدًا على لغة واضحة لا لبس فيها ولا غموض، تناسب هذه اللغة مستويات عدة لمتلقى الكتاب. لخطاب العرض آليات يعتمد عليها، فهو واحد من خطابات متعددة: الخطاب السردي- الخطاب الوصفي- الخطاب الجدلي، يتكون خطاب العرض كغيره من الخطابات، من جمل تتجاور فيما بينها مكونة نصًا متماسكًا، مبتعدًا عن شكلية نمطية تجعل من النص بناءً مكررًا لا خصوصية له، إن طريقة الكاتب فى العرض المتفرد تعنى بحثه الدائم عن أوعية لغوية تناسب الأفكار المراد عرضها والتعبير عنها. هنا تأتى منطقية العرض وتسلسله، مما يترتب عليه تلقيه تلقيًا فعالًا.
خطاب عرض الأفكار عند الأستاذ شعبان يوسف يتكئ على مجموعة من الآليات التى يتشكل منها خطابه، بعضها يتصل بمضامين الكتاب وأفكاره، مثل الموسوعية والتوثيق والوصف الذى يدعو إلى التأمل فى مادة الكتاب المعروضة عبر طياته، هنا تتداخل خطابات أخرى مثل الخطاب الوصفى والجدلي، ونرى الخطاب السردى حينما نجد بعض الحكايات الجانبية لكواليس الثقافة المصرية التى تخفف من خطاب العرض الذى يعتمد على المنطق واحترام العقل. وبعضها الآخر يتصل بالتشكيل اللغوى مثل استخدام التراكيب النحوية سواء كانت الجملة الاسمية أم الجملة الفعلية، وغير ذلك مما يتصل بالبنية اللغوية. تتكون البنية الكلية لخطاب العرض من: الاستهلال – العرض – الختام، يقصد بالاستهلال المقدمة. وبالعرض الفقرات العارضة التى يعرض فيها المؤلف أفكاره، وهو يمثل صلب الموضوع إذ يتضمن العرض الأفكار والعناصر المكونة للموضوع، معتمدًا على ثلاثية العرض: التحليل والتصنيف والمقارنة. أما الختام فيقصد به الفقرة التى يختم بها المؤلف مقاله، على اعتبار أن كل فصل فى الكتاب هو مقال حول شخصية أو حدث أو رأى أو قضية يقدمها الكاتب. من خلال خطاب العرض تتضح كثير من سمات الكتابة عند الأستاذ شعبان يوسف، منها الموسوعية والوصف والتوثيق.
فى النص التالى نموذج لهذه الموسوعية: فقد جاء فى مستهل فصل من فصول الجزء الثانى بعنوان: “محمد جاد رائد مدرسة عيش وملح” يقول شعبان يوسف:”فى أغسطس 1954م صدرت مجموعة “أرخص ليالي” للكاتب الشاب يوسف إدريس عن سلسلة الكتاب الذهبي، وبعدها بشهور قليلة، وبالتحديد فى ديسمبر من العام نفسه، صدرت مجموعة “العشاق الخمسة” للأديب الشاب يوسف الشارونى عن السلسلة نفسها أيضًا، سلسلة “الكتاب الذهبي”، وكانت هذه السلسة تصدر عن نادى القصة، برعاية مجلة روز اليوسف، نادى القصة الذى كانت تديره أقوى كتيبة أدبية فى مصر، منهم نجيب محفوظ، ود. طه حسين، ويوسف إدريس، وتوفيق الحكيم، ومحمود تيمور، وغيرهم، ومجلة روز اليوسف كانت أهم المجلات السياسية فى ذلك الوقت، وعلى رأسها النجم اللامع إحسان عبد القدوس، أى أن السلسلة كانت محمية أدبية ذات شأن كبير، بهذين الإصدارين للكاتبين الطليعيين يوسف إدريس ويوسف الشارونى تحددت معالم معسكرين سرديين قويين فى ميدان القصة القصيرة فى مصر، وربما فى العالم العربى كذلك.” الثقافة المصرية ج2 ص442
من أمثلة الموسوعية التى تعد سمة أصيلة فى الكتاب أيضًا النص التالى الذى يستهل به الأستاذ شعبان يوسف فصلًا بعنوان” جولة فى عالم بهاء طاهر المثير للجدل”:
“فى مارس 1984نشرت مجلة (إبداع) المصرية قصة جديدة للكاتب والمبدع والناقد والمترجم بهاء طاهر، عنوان القصة “بالأمس حلمت بك”، تلك القصة التى خطت مسارًا جديدًا فى ذلك العالم يتناول علاقة الشرق بالغرب، أو أنها أنهت عالمًا قديمًا كان يرسم عوالم متخيلة أو شبه فنتازية حول العلاقة بين القطبين، أو التقاطع بينهما، أوالصدام القاسى الذى جاء سرديًا فى كتابات توفيق الحكيم ويحيى حقى وسهيل إدريس والطيب صالح وغيرهم، ذلك الصدام الذى يسير على خطى الشاعر الإنجليزي”روديار كيبلنج” ومقولته الشهيرة:”الشرق شرق، والغرب غرب، لن يلتقيا”، وسنجد ذلك الصراع مجسدًا بشكل بارز واضح فى كتابات كل من نوهنا عنهم سابقًا وغيرهم، إلى درجة القتل التى نجدها عند الطيب صالح وبطله مصطفى سعيد، كما أننا نلاحظ أن إسماعيل فى قنديل أم هاشم يضرب بكل ما تعلمه فى الغرب عرض الحائط، ويعلن عن ولائه العميق لبيئته وحضارته مهما كان شكلها ومضمونها، وكذلك سهيل إدريس الذى جعل بطله يخذل حبيبته التى ارتبط بها فى باريس ويعود إلى أهله… ولم يستطع البطل أن يرفض أو يعترض أو يحتج حتى لو بشكل شفاهى على تلك التعليمات؛ لأنه مقتنع سلفًا أن الشرق شرق، والغرب غرب، من المستحيل أن يلتقيا أو يعيشا معًا، أو يعقدا صداقة إنسانية بعيدة عن ذلك التعصب القومى الذى يطارد الشرقيين أينما كانوا.” الثقافة المصرية ج2 ص 108-109
قوله أيضًا فى استهلال فصل “من الذى يدافع عن الثقافة فى مصر كيف ومتى؟”:
“هناك ظواهر عديدة ولافتة تكاد تكون تاريخية وحادة فى حياتنا الفكرية والثقافية والفنية فى الماضى والحاضر فى الأدب والشعر والنقد والفكر والعلوم الاجتماعية والفنون التشكيلية والسمعية والمرئية، ومنذ صدور كتاب “الإسلام وأصول الحكم” للشيخ على عبد الرازق، الذى صدر عام 1925، وكتاب “فى الشعر الجاهلي” للدكتور طه حسين، الذى صدر عام 1926، مرورًا بكتاب “من هنا نبدأ” لخالد محمد خالد، الذى صدر عام 1950، وصولًا إلى كتابات دكتور نصر حامد أبو زيد، ودكتور فرج فودة، وألف ليلة وليلة، ورواية “مسافة فى عقل رجل” لعلاء حامد، ورواية “وليمة لأعشاب البحر” للسورى حيدر حيدر، وبعد ذلك أزمة “الروايات الثلاث” للأدباء محمود حامد وياسر شعبان وتوفيق عبد الرحمن، وصولًا إلى رواية “استخدام الحياة” لأحمد ناجي، إلى أغانى المهرجانات، وقضية حجبها ومنع منتجيها والمؤديين لها من الغناء،… فى كل هذه القضايا أو الأزمات من الذى كان يشغل الفضاء العام بالأسئلة والإجابات.” الثقافة المصرية ج2 ص638-639″
وقوله أيضًا فى استهلال فصل “مجيد طوبيا وفن القصة القصيرة”: “فى عام 1963 تقدم الكاتب الشاب مجيد إسحاق طوبيا للمسابقة التى يقيمها نادى القصة الذى كان فى أوج تألقه ونشاطه، وهى جائزة سنوية كان يقيمها النادى لشباب الكتاب منذ عقد الخمسينيات- نشأ نادى القصة فى مايو 1952م_ تلك المسابقة التى كانت تجد إقبالًا كبيرًا قبل الكتاب الجدد، وغالبًا معظم الجيل االذى أطلق عليه جيل الستينيات فيما بعد، كان قد تقدم إلى هذه المسابقة المهمة فى تلك المرحلة، والتى كان يشرف عليها كتاب كبار وبارزون مثل يوسف السباعى ويوسف الشارونى ومحمود تيمور وأمين يوسف غراب ومحمد عبد الحليم عبد الله وغيرهم، وبغض النظر عن المبلغ الرمزى الذى يتقاضاه كل فائز، إلا أن هذه الجائزة كانت تعطى للفائزين ثقة عالية فيما يكتبونه، طالما أن قصصهم مرت على هؤلاء الكتاب الكبار، وأيضًا فازت بذلك الفوز أى كانت درجته وترتيبه، حيث إن ترتيب الكاتب الشاب مجيد إسحاق طوبيا كان التاسع من بين عشرة فائزين، وكان الكاتب الشاب أسامة أنور عكاشة -الذى صار بعد ذلك كاتب الدراما التليفزيونية الكبير- قد فاز بقصتين فى ذلك العام، وحصلت قصته “خارج الدنيا” على الترتيب الثاني، وقصته الثانية “حكاية غريبة” على الترتيب السابع.” الثقافة المصرية ج2 ص 362- 363
تتمثل الموسوعية فى ذلك العرض الزاخر الذى تضمنته المقاطع السابقة من الكتاب، نجد أسماء الأعلام التى تؤسس لهذا العرض سواء كانت لأشخاص أو لدوريات ومجلات، التواريخ التى تحدد الزمن بدقة، السياق الثقافى، كل ذلك جاء فى نسيج محكم، إذ عرض المؤلف أفكاره موثقة خالية من الاستطراد الذى يفقد القارئ القدرة على الاستمرار فى القراءة. لقد وظف الأستاذ شعبان يوسف هذه الذخيرة المعلوماتية توظيفًا يجعل القارئ شاهدًا على لحظات بدايات مبدعين أصبحوا فيما بعد يقفون فى الصفوف الأولى، يا لها من متعة أن تطالع كل ذلك فى كتاب واحد، فقد تقرأ هذه المعلومات فى مصادر متفرقة، قد تكون غير متاحة لك، وهنا جاءت أهمية هذا الكتاب الذى يقدم سيرة أخرى للثقافة المصرية مؤسسة على التوثيق والوصف والعرض الرصين.
تعددت أنواع الاستهلال التى اعتمد عليها الاستاذ شعبان يوسف فى كتابه، فقد جاء الاستهلال التاريخى فى المقدمة، إذ يفتتح بعض فصول كتابه بذكر السنة التى وقعت فيها الأحداث والقضية التى سيناقشها خلال مقاله وقد لا يكتفى بذكر السنة وإنما يذكر اليوم أيضًا، أو بذكر ظروف الزمان مثل حينما- بعد-عندما- منذ، وغيرها، وقد بدا هذا جليًا فى الأمثلة السابقة، ثم يأتى الاستهلال التساؤلى الذى يبدأ به بعض فصول كتابه قاصدًا إشراك المتلقى عبر هذه الإجابات الافتراضية التى ستدور فى ذهن المتلقى وقت القراءة. وقد يكون استهلالًا مباشرًا حيث يبدأ الكاتب استهلاله بالدخول فى الموضوع مباشرة، هنا يكون ضمير المتكلم حاضرًا فى مثل قوله فى استهلال فصل” لبنانيون فى صحافة وثقافة القاهرة مجرد مقدمات”:
“لا أعتقد أن علاقة فكرية وثقافية وأدبية قد توطدت بين عاصمتين عربيتين، وامتدت لعقود طويلة، وجرت فى نهر العلاقة مياه كثيرة، مثل تلك العلاقة الطيبة التى نشأت وتكونت ونمت وتكورت بين القاهرة وبيروت.” الثقافة المصرية ج2 ص485
وقوله أيضًا فى استهلال فصل “أحمد بهاء الدين يعنّف محررًا من أجل نزار قباني”:
” نزار قبانى وصل إلينا بكافة الأشكال والطرق المقروءة والمرئية، فكلنا نقرأه عبر الصحف والمجلات، وكذلك الأغنية الشهيرة للفنانة نجاة الصغيرة” الثقافة المصرية ج2 ص 335
وقوله فى استهلال فصل “من الذى يدافع عن الثقافة فى مصر كيف ومتى؟”:
“هناك ظواهر عديدة ولافتة تكاد تكون تاريخية وحادة فى حياتنا الفكرية والثقافية والفنية فى الماضى والحاضر فى الأدب والشعر والنقد والفكر والعلوم الاجتماعية والفنون التشكيلية والسمعية والمرئية.” الثقافة المصرية ج2 ص638
من أنماط الاستهلال السردى قوله فى استهلال فصل “العسكرى الأسود”:
“كانت حياة يوسف إدريس مليئة بالأحداث الاجتماعية والسياسية والثقافية، وكان قبل ثورة 23يوليو ومنتميًا إلى التنظيمات السياسية اليسارية، تلك التنظيمات التى كانت تواجه الثالوث الطاغى فى ذلك الوقت، السراى والإنجليز وكافة الطبقات الاجتماعية المستغلة بكل الطرق البشعة”. الثقافة المصرية ج2 ص 467
يمكن لنا ملاحظة تكرار الفعل (كان) الذى يمثل علامة لغوية تشير إلى الخطاب السردي؛ لأنها مفتاح الحكي. ويعد الفعل (كان) ملمحًا أسلوبيًا فى الكتاب، فى علامة واضحة على حضور واستدعاء وجوه من الزمن الماضي؛ ولأن الكتاب أيضًا يعتمد على سرد الأخبار المتعلقة بالقضايا التى يناقشها المؤلف.
يمثل العرض الجزء الأساسى فى كل فصل، حيث يعرض المؤلف أفكاره فى كل فصل معتمدًا على ثلاثية العرض التى صنفها بعض علماء الأسلوبية: التحليل والتصنيف والمقارنة، ففى التحليل يعرض المؤلف فكرة أساسية، ثم يقوم بعرضها فى عناصر ثانوية بقصد تفسيرها وتحليلها حتى يستطيع القارئ أن يدرك مراميها، ويتعرف على أبعادها، من المهم جدًا أن تصبح الفكرة الكلية معروضة فى عناصر جزئية مكونة نسيجًا متماسكًا. لقد اتخذ التحليل مظاهر متعددة مثل: المتابعة الاستقصائية، التفسير، التساؤل وطرح الأسئلة، التفريع، والمناقشة الجدية البعيدة عن التزيد، وغير ذلك من طرق تحليل الأفكار وعرضها. نستطيع القول إن مؤلف الكتاب قد اعتمد هذه الآلية بشكل كبير. كما اعتمد على آليتى التصنيف التى تتخذ من التحديد والتعريف طريقين لعرض الأفكار، والمقارنة التى تعتمد على القياس أو التوازي، والمقابلة التى قد نراها عند الحديث عمن يحتلفون عنا ثقافة وبيئة مثل حديثه فى فصلي: “عاصفة جان بول سارتر فى مصر”،”جان بول سارتر متهمًا فى البرلمان المصري”.
على الجانب الآخر تأتى أنماط الختام كاشفة عن رؤية الكاتب، قد تكون تساؤلية، وقد تكون تلخيصية، وقد تكون طرفة، وقد تكون حكمًا، من أنماط الختام النماذج الآتية:
قوله فى ختام فصل “أمينة السعيد وعقود من النسيان”:”هل من الممكن أن تتضافر وتتعاون جهات مثل وزارة الثقافة ونقابة الصحفيين والمجلس القومى للمرأة حتى يتسنى لنا أن نرد قليلًا مما أعطته للحياة الصحفية والأدبية والاجتماعية فى مصر والعالم العربي؟ سؤال أتركه للمسئولين والمعنيين، ربما يجد صدى طيبًا لديهم.” الثقافة المصرية ج2 ص 578
وقوله فى ختام فصل “يحيى حقى وسر أثره العميق فى الثقافة والأدب”: “هكذا كان يحيى حقى يشعر بمسئوليته الكاملة والشاملة تجاه أدب الشباب، وربما الأدب عمومًا، كأنه البستانى الذى يرعى وروده بطرقه الخاصة والمتاحة، بالكتابة عنهم وعن كتاباتهم بمناقشتهم فى الندوات، وبكتابة مقدمات لكتبهم الأولى، لم يبخل على أى منهم، ولم يجلس فى برجه العاجى متأملًا حركات الشباب دون أن يمد لهم يديه وقلبه وعقله.” الثقافة المصرية ج2 ص 692
وقوله فى ختام فصل “رباب كمال وقراءة تشريحية عى عقل التطرف”:
“لا تكفى التحية للباحثة الجادة رباب كمال التى صرخت بما فيه الكفاية، وقدمت لنا جدارية مهمة فى تشريح ومواجهة العقل المتطرف، والذى بات خطرًا علينا جميعًا، وقبل مواجهته لابد من فهمه وتشريحه كما جاء فى هذا السفر المحترم.” الثقافة المصرية ج2 ص 182
وقوله فى ختام فصل بعنوان”خالد محمد خالد ومعاركه التى مازال صوتها مدويًا”:
“ولابد أن نسجل هنا بوضوح تام أن هذا الحوار كان أجرأ حوار دار بين مثقف ورئيس جمهورية –حاكم-، ليظل ذلك الحوار نموذجًا لحوار ديمقراطى عميق وشامل… رحم الله خالد محمد حالد وجمال عبد الناصر، لقد قدما نموذجًا للحوار يظل ملهمًا للأجيال كافة التى لحقت بهما فيما بعد.” الثقافة المصرية ج 1ص 451.
يتبادر سؤال الآن: كيف استطاع الأستاذ شعبان يوسف أن يقدم هذا السيل من المعلوماتية والأفكار بهذا القدر من التدفق والتسلسل دون عوائق فى تلقى هذا الكتاب المهم؟ تأتى الإجابة إنها اللغة السهلة التى لا تخلو من جزالة، البسيطة التى لا تخلو من العمق، إنها اللغة التسجيلية -بحكم الموضوعات والقضايا المطروحة- التى لا تخلو من الأدبية، تخلل هذه اللغة أشعار لآخرين وفق السياق الذى وردت فيه، تخللها أيضًا مقولات وبعض سطور من مذكرات، أتى بها مؤلف الكتاب موثقًا لموقف يرويه، أو قضية يناقشها. هذه لغة صافية فيها روح مصرية بكل ما تحمل الكلمة من معان، مغلفة بشجن دفين ومحبة غامرة للثقافة وناسها.
هذا كتاب موسوعى بذل فيه الأستاذ شعبان يوسف جهدًا استقصائيًا مدققًا وراصدًا لأحوال الثقافة المصرية، وقد اعتمد الباحث فى تأليفه على التواريخ وأسماء الأعلام والحوادث الكبرى التى شكلت المشهد الثقافى المصرى الزاخر فى قرابة نصف قرن أو يزيد. هو رحلة فى التاريخ وفى الجغرافيا، فقد سرنا مع شعبان يوسف فى أروقة الثقافة المصرية ودروبها وشوارعها المزدحمة بمئات المبدعين الذين رسموا صورة مصر المنفتحة على كل التيارات الأدبية، عشنا فى نواديها ومقاهيها التى شهدت ميلاد كثيرين ممن أثروا الثقافة المصرية والعربية.
اكتشاف المزيد من موقع الدكتور العتيبي
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.