الهجرة مشروع لبناء حضارة إيمانية جديدة
هاجر – عليه السلام – ولكنه لم يهجر:
فالرسول المهاجر – صلى الله عله وسلم – لم يهجر كل ذلك، بل حمله معه في قلبه، يحنُّ إلى ذلك اليوم الذي يعود فيه إلى مَراتع الصبا، وإلى الرحم الذي وقف معه، حتى قال قائلهم وسيدهم أبو طالب: “اذهب يا ابن أخي! فقل ما شئت، فو الله لن أسلمك أبداً”، مع أنه لم يكن على دينه.
وإنما كانت هجرة الرسول – صلى الله عله وسلم – من مكة؛ هجرًا للوثنية المسيطرة التي لا يريد أصحابها أن يتعاملوا بمنطق الدين، أو منطق العقل، أو منطق الأخلاق، فهذه وثنية يجب أن تُهجَر، وأن يُهاجر من مناطق نفوذها وإشعاعاتها.
وإنما هاجر الرسول، وهجر – إلى جانب الوثنية المسيطرة – تلك العصبية المستعلية التي تَعرف منطق القوة، ولا تعرف منطق الحق، وليس في وَعْيها ولا في قاموسها أن تُهادن الإيمان، وأن تترك مساحة للتفاهم والحوار، وبالتالي تصبح الحياة معها – بعقيدة إيمانية بعيدة عن إشعاعاتها – أمرًا مستحيلاً.
إننا نريد أن يُفهَم مضمون الهجرة الإسلامية كما ينبغي أن يُفهَم، وأن تكون هجرة الرسول هي المرجعية لهذا الفهم، فقد بُعِث محمد – صلى الله عله وسلم – “رحمة للعالمين”، فكيف تكون إذًا رحمته بالقوم الذين انتسَب إليهم، أو بالقوم الذين عاش معهم، أو بالأرض الطاهرة التي نشأ فيها، وتربَّى في بِطاحها وتنسَّم عبيرها، وشاهد جموع الزاحفين إلى أرضها الطاهرة من كل فَجِّ عميق؟!
إن رحمته – بالضرورة هنا – لا بد أن تكون أكبر من أي رحمة أخرى؛ ولهذا نراه – صلى الله عله وسلم – يرفض دائمًا أن يدعو على أهل مكة، وحتى وهو في هذه اللحظة البالغة الصعوبة، عندما وقع في حفرة حفروها له في موقعة أحد، وتناوَشته سهامهم من كل مكان، وسالت دماؤه الطاهرة على جبل أُحد الذي كان يتبادل الرسول – صلى الله عله وسلم – الحب معه؛ لأن بعض قطرات دمائه الزكية قد اختلَطت بتراب أُحد الطاهر، فأصبَحا حبيبين، حتى في هذه اللحظة البالغة الصعوبة، لم يستطع لسانه الزكي ولا قلبه التقي أن يدعوَ عليهم، ولا أن يشكوَهم إلى الله، وإنما كان يردِّد على مسمع من الناس جميعًا: “اللهم اهدِ قومي؛ فإنهم لا يعلمون”؛ (متفق عليه).
وعندما كان يرى تمادي قريش في الحرب، كان يتأسف عليهم ويقول: ((يا وَيْحَ قريشٍ، لقد أكلَتهم الحربُ، ماذا عليهم لو خلَّوا بيني وبين سائر الناس))؛ (رواه الإمام أحمد في مسنده).
وكم راودته الجبال الشمُّ – بأمر من الله – أن تُطبَق عليهم، فكان يرفض ويقول: ((أَرْجُو أَن يُخرج اللهُ مِن أَصلابهم مَن يَعبد اللهَ وحْده لا يُشرك به شيئًا))؛ (متفق عليه).
وعندما جاءته فرصة السلام معهم، أصرَّ عليها مع تعنُّتهم في الشروط تعنُّتًا أغضب أصحابه، لكنه كان يريد لهم الحياة، وألا تستمر الحرب في أكْلهم، وألا يبقوا – وهم قومه وشركاؤه في الوطن – مستمرين في تأليب القبائل عليه، لدرجة أنهم أصبحوا العقبة الكأداء في طريق الإسلام؛ مما يفرض عليه بأمر الله الجهاد لإزالة هذه العقبة، ونجح الرسول في إزالة عقبتهم بقبول شروطهم المُجحفة؛ حبًّا لهم، وحفاظًا على بقائهم، وأيضًا لإفساح الطريق أمام دين الله.
أما حين دخل مكة – صلى الله عله وسلم – فاتحًا، فقد حافظ بكل قوة على كرامتهم ودمائهم، ولم يقبل مجرد كلمة خرجت من فم سعد بن عبادة – رضي الله عنه – أحد الصحابة والقادة الأجِلاَّء، وذلك عندما قال: “اليوم يوم الملحمة”، فنزَع الراية منه وأعطاها لابنه قيس، وقال: ((لا، بل اليوم يوم المرحمة، اليوم يعزُّ الله قريشًا))[1].
وعندما استسلمت مكة كلها تمامًا، وقف أهل مكة ينتظرون حكمه فيهم، مستحضرين تاريخهم الظالم معه، لكنهم سَرعان ما تذكَّروا أنه الرؤوف الرحيم الطاهر البريء من رغبات الانتقام أو المعاملة بالمثل، فلما سألهم: ((ما تظنون أني فاعل بكم))، قالوا: “أخ كريم وابن أخ كريم”، فرد عليهم قائلاً: ﴿ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ ﴾ (يوسف: 92)، وهي كلمة نبي الله يوسف – عليه السلام – التي قالها لإخوته، ومنها ندرك أنه اعتبرهم جميعًا إخوته، كأنهم إخوة يوسف – عليه السلام – ثم أعلن العفو العام بتلك الجملة الخالدة: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء لوجه الله تعالى))[2].
. فكأنه أنقذهم من الموت الزؤام – عليه الصلاة والسلام.
دعوة لمهاجري العصر الحاضر:
ونقول للمهاجرين من أبناء عصرنا لظروف مختلفة إلى أي بلد من بلدان العالم: هذه هي هجرة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بين أيديكم، وهي كتاب مفتوح، فأمِعنوا القراءة فيه؛ لتدركوا منه أن هجرتكم من بلادكم – لأي سببٍ من الأسباب – لا تعني القطيعة مع أرض الوطن، ولا مع الأهل والعشيرة، ولا مع المسلمين في أي مكان، مهما تكن الخلافات الظرفية الطارئة معهم، بل يجب أن تبقى الصلة قائمة بينكم وبين الأهل والقوم، تمدونهم بأسباب الحفاظ على الدين من مواقعكم؛ لكي يثبتوا ويمتدوا بإشعاعات الإيمان إلى أكبر مدًى ممكن، لا سيما ووسائل التواصل الآن في أقوى مستوى عرَفته البشرية، وبالتالي تكونون قد وصَلتم الرحم، وجمعتم بين الثلاثية المتكاملة التي تمثل بأركانها الثلاثة وَحدة لا تَنفصِم، وإلا فقَدت الأمة “مكانة الخيرية” التي رفعها الله إليها عندما قال: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ ﴾ (آل عمران:110)، إنها ثلاثية الإيمان والهجرة والجهاد.
أجل! في عصرنا هذا يجب أن يعود معنى الهجرة إلى منبعه النبوي، فليست الهجرة هجرًا للوطن، وقطيعة تاريخية أو معرفية معه، بل هي هجرة موصولة بالماضي، تعمل على تعميق الإيمان فيه، وتبني قلاعًا للإيمان في المهجر الجديد، وتصل بين الماضي والحاضر والمستقبل انطلاقًا من درس الهجرة النبوية.
التواصل مع ماضي المهاجر مطلوب:
إن الحرية التي تريد أن تتمتَّع بها في مهجرك، والثروة التي تريد أن تكوِّنها، وحتى الدعوة التي تريد أن تبلِّغها – إن كنت ممن اصطفاهم الله للدعوة والبلاغ – كل هذه تدفعك إلى التواصل مع الماضي من جانب، وتَدفعك إلى بناء حدائق للإيمان يفوح عِطرها في وضْعك الجديد وبلدك الجديد من جانب آخر.
ليكن معنى الهجرة واضحًا في وَعيك، فهي ليست هجرة من أرض ولا أهل إلى أرض، وأهل آخرين، بل هي هجرة من قِيَمٍ ضيِّقة ضاغطة تكبِّل حركة الإيمان، وتَفتعل الصدام المستمر، وترفض الحوار بين الأفكار والعقائد، إلى قيمٍ أخرى تسمح لأشجار الإيمان أن تنموَ، وتسمح بالتفاعل والتحاور، ومواجهة الرأي بالرأي، والحجة بالحجة، وتكون مؤهلة لأن تسمح لأهل الإيمان والحق أن يعيشوا كما يريدون، وأن يبنوا قِلاع الإيمان في النفوس، عن طريق الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن.
إن الهجرة النبوية الإسلامية هجرة يُقصَد بها كسْر القيود التي تُفرض على الإيمان، وفتح نوافذ أخرى في أرض جديدة، وليست الهجرة الإسلامية أبدًا من تلك الهجرات التي تعني زحفًا على البلاد على حساب أهلها، أو لتحقيق الثروة، ثم الخروج بها، أو للاعتماد عليها لقهْر أصحاب البلاد الأصليين، وجعْلهم مجرد منفذين وأدوات لمشروعات وطموحات المهاجرين إليهم.
فالهجرة الإسلامية اليوم – إلى أي بلد في العالم – يجب أن تكون هجرة تسعى إلى التواصل والتعارف، والتحاور والحب؛ بحيث يشعر كل الناس أن الأفراد المسلمين أو المجموعات الإسلامية التي تعيش بينهم، إنما تمثل روحًا جديدة، تبني ولا تَهدم، وتزرع الخير، وتقاوم الشر، ولا تعرف التفرقة في ذلك بين المسلم وغير المسلم، والوطني، والوافد، والأبيض والأسود.
وكل ذلك لن يتحقق إلا إذا رأى الناس في المسلم المهاجر إليهم – من خلال أقواله وأفعاله، وإسهاماته الخدمية، وآفاقه المعرفية، وعبوديته لله – شخصية متميزة جادة تَفعل ما تقول، وتعيش معهم حياتهم اليومية، وآمالهم، وآلامهم، يَفيض منه الخير والنور، تلقائيًّا وعفويًّا، كأنه بعض ذاته، وكأنه مرآة قِيَمه، وصدى أخلاقه، وأثر منهجه في الحياة.
وهنا يتساءل الناس من غير المسلمين:
من أين لهذا المهاجر كل هذا الخير والنور؟ من أين له هذه الإنسانية المتدفقة؟ ومن أين له هذه الرحمة التي تعم الإنسان كل إنسان، بل والحيوان والنبات أيضًا، فسيصلون حتمًا إلى الإجابة الصحيحة، وهي أن هذا الإنسان يرتشف من نبْع الأنبياء، ويستمد وعْيه الحضاري ومشروعه الإنساني الرحيم من نبيِّه وإمامه، وإمام المسلمين الأعظم، بل وإمام الإنسانية محمد – صلى الله عله وسلم.
فقد كانت هجرته المباركة روحًا جديدة، عبَّر عنها أحد الصحابة الكرام (أنس بن مالك – رضي الله عنه) في قولته المعروفة التي ذكَر فيها أنه عندما دخل الرسول – صلى الله عله وسلم – المدينة بعد نجاح هجرته: “أضاء منها كل شيء، وعندما مات – صلى الله عله وسلم – أظلم فيها كل شيء”، وهذا على العكس من مكة التي تسلَّل منها المسلمون هاربين بدينهم، فأظلم فيها كل شيء، ولم يبقَ فيها إلا الطغيان، والنزوع إلى الحرب، فلما فتَحها الرسول – صلى الله عله وسلم – انبعث فيها النور، وأضاءت الكعبة، وجاء الحق وزهَق الباطل، وأصبحت مكة قلعة الإسلام الأولى.
إن هذا المعنى للهجرة يجب أن يبقى فوق كل العصور؛ لأنه اتصل بنبي الرحمة في كل العصور وكل الأمكنة، وأصبح – بالتالي – صالحًا لكل زمان ومكان، صلاحيةَ كل حقائق الإسلام الثابتة.
ولئن كنا نؤمن بأنه ((لا هجرةَ بعد الفَتح))؛ (متفق عليه)؛ كما قال الرسول – صلى الله عله وسلم – فإننا يجب أن نؤمن في الوقت نفسه ببقية الحديث، وهو قول الرسول: ((ولكن جهاد ونيَّة))، وهذا يعني أن الهجرة بعد مرحلة الهجرة الأولى قد أخذت بُعدًا اصطلاحيًّا جديدًا، ففي البُعد الأول كانت الهجرة مرتبطة بمكان هو المدينة، ولكنها بعد ذلك أصبحت مطلقة من المكان، فهي إلى أي مكان شريطة أن يكون “الجهاد والنية” هما الهدفين المغروسين في النفس، فهما – أي: الجهاد والنية – قد انفصلا عن قيد وَحدة المهجر (المدينة) الذي كان في صدر الدعوة، وأصبحا صالحين في كل العالم، يَمشيان مع رجال الدعوة والبلاغ، ويَضمنان سلامة الأعمال وارتفاعها على المنافع الاقتصادية أو الظروف السياسية.
الهجرة والتكافل الإيماني:
وعندما يستقر هذا المعنى في النفس، نستطيع أن نَطمئنَّ إلى أن أبطال الدعوة والبلاغ سيُنشئون في كل مكان يحلون فيه حديقة جديدة للإيمان، وتاريخًا جديدًا يبدأ كأشعة الشمس في الصباح، ثم ينساب عبر كل زمان، منطلقًا إلى مساحة جديدة في الأرض.
وعلى المسلمين إذًا – عندما يكونون في أرض المهجر – أن يسارعوا إلى الالتحام ببعضهم، وتكوين مجتمع إيماني يقوم على “المؤاخاة” التي ترتفع فوق الأخوة، وهي مستوى خاص فوق أخوَّة الإيمان التي هي مستوى عام، وأن يتكافلوا مع بعضهم تكافلاً ماديًّا ومعنويًّا؛ تحقيقًا لقوله تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾(المائدة:2) وقوله أيضًا: ﴿ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾(العصر:3).
والتكافل “المادي” يعني التعاون على ضمان الحد الأدنى المطلوب للحياة لكل أخ مسلم؛ طعامًا أو شرابًا، أو علاجًا أو تعليمًا أو كساءً، والتكافل “المعنوي” هو التعاون على ضمان التزام “الأخوة” في الإسلام بأداء “الفرائض” والبعد عن “المآثم”، وتفعيل وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في إطار البيئة التي يعيشون فيها وبالأساليب المناسبة لها، وعليهم أيضاً أن يبنوا “مسجدًا” يضم الرجال والنساء والأطفال، مهما يكن مستواه متواضعًا، فقد حذَّرنا الرسول من وجود عدد – مهما يكن قليلاً – من المسلمين لا تُقام الجماعة فيهم، كما أن “المسجد” سيكون محور لقاءاتهم وتعارُفهم وتكافلهم المادي والمعنوي، ومن المسجد ينطلقون إلى صورٍ من التكامل فيما بينهم، تأخذ طابعًا علميًّا ومؤسساتيًّا، يجعل لهم قيمة وتأثيرًا وإشعاعًا في مهجرهم الجديد.
لقد أخبرنا الرسول – صلى الله عله وسلم – أن مما فُضِّل به على بقية الأنبياء، أن الأرض جُعلت له مسجدًا، وقد حقَّق المسلمون السابقون العظماء “مسجديه الأرض” في كل الأرض التي هاجروا إليها، فهل يمكننا أن نستأنف المسيرة ونَحذو حَذْوهم.
فلعل الأرض تتخلص من الغيوم السوداء المتلبدة وتعود مسجدًا طهورًا، ولعل الله يجري على أيدينا وأيدي المستخلفين من بعدنا نهرًا جديدًا للإيمان، وتاريخًا جديدًا تتعانق فيه راية الوحي مع العلم، والحق مع القوة، ويسود العدل الشامل والرحمة المحمدية العالمية كلَّ الكون، وما ذلك على الله بعزيز!!
اكتشاف المزيد من موقع الدكتور العتيبي
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.