ثقافة

قصة “سره الباتع” لـ يوسف إدريس.. الحلقة الثالثة



سره الباتع .. قصة للكاتب الكبير يوسف إدريس، تحولت إلى مسلسل للمخرج خالد يوسف بعد مرور 65 عامًا على صدورها ضمن مسلسلات رمضان 2023، وتزامنًا مع عرض مسلسل سره الباتع، ينشر “اليوم السابع” قصة “سره الباتع” التي نشرت لأول مرة عام 1958 ضمن مجموعة قصصية بعنوان “حادثة شرف”.




قصة سره الباتع.. الحلقة الثالثة


وتبيَّنتُ أنِّي كنتُ على حقٍّ؛ فالذي كان باركًا في الداخل لم يكن هو السلطان حامد، بل كان قبره، والرقبة الطويلة كانتْ رقبة القبر، والشيء الأخضر الذي يبرق كان عمامته.


 


بل أكثر من هذا، كانتِ الكسوة الموضوعة على القبر كسوة قديمة باهتة لا تكاد تستطيع أن تتبيَّنَها من كثرة ما علاها من غبار، وكانت «القراضة» قد تولَّتْ نهْشَ حروف الآيات القرآنية المكتوبة بالقماش فوقها، وكانتْ رائحة العطن تشيع من المكان، والظلام الرابض تحس أنه ليس ظلامًا ولكنه نور قديم، من طول ما مكث مدفونًا تحوَّل إلى ظلام.


 


وعدتُ أدراجي ومعي قطعة كبيرة من الشمع، اقتلعتُها من الأرض، ونفضتُ عنها الرمال، على أمل أن تصلح لشيء ما.


ولكني حين عدتُ إلى بيتنا احترتُ ماذا أصنع بها، صنعتُ منها كرةً ثم قُلَّةً، ثم أفقتُ لنفسي فوجدتُني أصنعها على هيئة قبر له رقبة طويلة وعمامة خضراء.


 


وأعجبني التمثال الذي صنعتُه للقبر إلى درجة استخسرتُ معها أن أغيِّره أو أُلْقِيَه، وأصبح كل همِّي أن أحتَفِظ به في مكان أمين، وظلِلْتُ أفكِّر حتى وجدتُ أنَّ أحسن مكان له هو طاقة من الطاقات التي تُستَعمل في برج الحمام.


 


وكنتُ أعجب لنفسي طوال اليوم، وأستغرب لماذا لم أعُدْ أفكِّر في السلطان حامد؟! ولماذا يرفض عقلي أن يخوض في مشكلته؟! كنتُ أحسُّ به غريبًا عن نفسي تمامًا، وكأنَّه لم يخطر لي أبدًا، وكأنني لا أعرفه ولا يهمُّني أن أفكِّر فيه، وأحيانًا كان يدفَعُني العجب وأحاوِل أن أُرْغِم نفسي على التفكير فيه، فلا أستطيع.


وقلتُ لنفسي: ربما أفكِّر غدًا.


ولكن الغد جاء ولم أفكِّر فيه.


بل مضَتْ مدة طويلة جدًّا، ربما عام، ربما أعوام، والسلطان حامد لا يخطر لي على بال.


أتأخذ عقولنا أحيانًا كل هذا الوقت الطويل لكي تفكر في أمرٍ ما؟!


لقد استيقظتُ ذات صباح وأنا أفكِّر في السلطان حامد، وكنتُ أفكِّر فيه بطريقة أخرى؛ فهل كان هذا السلطان واحدًا من أهل بلدنا؟ ومِن أيِّ عائلة هو إن كان؟ ومَن هم أحفاده وذريته من بعده؟


ووجدتُني أسأل كبار المعمَّرين في بلدنا هذا السؤال، وأجمعوا كلُّهم أنَّ السلطان حامد بالتأكيد لا يَمُتُّ بصلةٍ إلى أحدٍ من بلدنا، وربما يكون غريبًا، ولكنَّ أحدًا على وجه الدقة لا يعلم، كل ما يعرفونه أنَّ بلدَنا، والحمد لله، لم ينشأ فيها وليٌّ من أوليائه، ولا بُنِي لأحدٍ من موتاهم مقام.


ولم يتصوَّر أحدٌ ممَّن سألتُهم أية دهشة كانتْ إجابتُه تُحدِثها.


 


فإذا كان السلطان حامد غريبًا، فلماذا اختار بلدنا دون سواها ليُدْفَن فيها، ثم مَن بَنَى له هذا المقام الحجري وكلُّ قبور بلدنا من الطين؟ ومَن اشترى الكسوة؟ ومَن صنع له تلك الرقبة الطويلة ووضع فوقها القمامة؟ ومَن زرع هذا الكافور الطويل؟


أغرب شيء أنَّ المعمَّرين في بلدنا كانوا يَرَوْن أسئلتي هذه ويسمعونها، وأحسُّ أنَّهم يحسبونني مخبولًا؛ لأنني أعجب من هذه الأشياء، وكأنني أسأل عمَّن حفر البحر أو اختار اسم بلدنا أو حدَّد ميزان النقطة، لماذا أسألهم عن شيء كان موجودًا قبل أن يُولَدوا، شبُّوا فوجدوه قائمًا، ومن المحتمل أنَّه سيظلُّ قائمًا إلى يوم الدين؟


وأنا بدَوْري كنتُ أعجب وأظنُّهم هم المخرِّفون المخبولون؛ إذ كيف لم يتبادَر إلى أذهانهم أبدًا أن يعرفوا لماذا دُفِنَ السلطان حامد في بلدنا دون سواها، ولماذا يُبنَى له مقام؟


وكان النقاش بيننا يطول، أنا بجلبابي الإفرنجي ورأسي العاري ولساني الذي لا يكفُّ عن الخوض في أي موضوع، وهم بلِحاهم الطويلة ونظرهم القليل وعُرْفهم الذي يعرف حدوده، ويعرف أين يقِفُ ومتى يسير، حتى جدي، كم صنعتُ له فناجيل القهوة، وكم انتظرتُ حتى يَزِنَ رأسَه وتعود الابتسامة إلى وجهه، وما أكاد أفتح فمي أسأل حتى يقول: «قلت لك ميت مرة فكَّر في اللي ينفعك انت، فكَّر في كتبك، مالك انت ومال الحاجات دي؟!»


وإذا أحسستُ أني أوشك أن أُثِير غضبَه أدَّعِي أمامَه أنِّي اقتنعتُ، ولكني لم أكن أقتنع، فالأسئلة التي كانتْ تُراوِدني عن السلطان حامد لم يكن يستطيع عاقل أن يسكت عنها، كائن ضخم عملاق مثله له في كل بيت جدار، وذكْرُه على ألسنة الناس باستمرار، ومكانته لا يَرْقَى إليها أكبر واحد من الأحياء أو الأموات، ومع هذا لا يعرف عنه أحدٌ شيئًا، ولا يريد أن يعرف عنه؟! أليس هذا أمرًا محيِّرًا يدفع إلى الجنون؟! أو بالقليل يدفع إلى الغضب؟!


وماذا يدفع إلى الغضب أكثر من أن أسأل واحدًا من شباب القرية أو رجالها مثلًا، وأضع أمامَه تلك المشكلة المحيِّرة فيقول: «أهه، شالله يا أهل الله!»


وبدأتُ أضيق بالسلطان حامد، وأضيق أكثر بأهل بلدنا، وكأنَّه جمع ثروةً من حرام لا حق له فيها، وكأنهم تنازلوا له عن قروشهم ليجعلوه غنيًّا، هكذا، بكل سذاجة وعبط.


وذات مرة سألتُ الشيخ شلتوت صاحب الكُتَّاب، فلم أظفر منه بطائل، وكنت أعرف أني لن أظفر من وراء سؤاله بطائل، فما سألتُه مرةً عن شيء إلَّا وصاغ إجابتَه بطريقة لا تُسْمِن ولا تُغْني من جوع، سألتُه لِمَ يحتلُّ السلطان حامد تلك المكانة الضخمة عند الناس، فقال لي: «لأنه كان رجلًا تقيًّا ورعًا.»


قلتُ: «إذن، أنت تعرفه؟ لا بدَّ أنك سمعتَ عنه، قل لي؟»


فقال: «كل ما أعرفه أنه كان لا بد صالحًا، وإلَّا لَمَا كان له مقام.»


قلتُ: «ولكن مقامَه فقير قديم ليس كمقام السيدة زينب أو الحسين.»


قال: «المسألة مش بضخامة المقام المبني يا بني، المسألة بضخامة المقام عند الله.»


فقلتُ: «ماذا أفعل إذن لأعرف سرَّ السلطان حامد؟»


قال: «بالوصول، بذكر الله»


 


ووجدتُني أفكِّر فيما قاله طويلًا مع أنَّ ما قاله لم يشفِ غليلي، بل وجدتُ نفسي أتردَّد كثيرًا على كُتَّابه، ومناقشاتي معه لا تقرِّبني قليلًا أو كثيرًا من أمر السلطان.


 


وقلتُ لنفسي: ربما كان صحيحًا ما يقوله، ربما كان سرُّ السلطان حامد لا يفتح إلَّا لبعض الناس، للصالحين، وربما لو ذكرتُ الله، ووصلتُ، أصل إلى مكانٍ أرى منه السلطان، وأرى أمرَه بوضوح، وبدأتُ أتردَّد على حلقة الذكْر التي يُقِيمها الشيخ شلتوت في بيته كل ليلة إثنين، ولم أهضِم ذهابي إلى هناك أبدًا، وكنتُ أذهب سِرًّا؛ حتى لا يراني أحد زملائي ويسخر مني، كنَّا نجتمع عشرة رجال أو أكثر، أندسُّ بينَهم وهم يرمُقونني بترحيب كبير؛ إذ إن حلقتهم قد ضمَّتْ أخيرًا أحدَ المتعلِّمين، والمتعلِّمون كان بينهم وبين الدِّين — على حدِّ قول الشيخ شلتوت — بحر من سم ودم، كنَّا نجلس على الحصيرة ونستغرق في التفكير في الله، ثم نذكُرُه في سِرِّنا، ثم نجهر بذكْرِه، ثم نتمايَل لاسمه، ثم يدفَعُنا الحماس إلى الوقوف، ويُمْسِك لنا الشيخ شلتوت المجلس وقد حَمِيَ، وأصوات الرجال الخشنة تتصاعَدُ من صدورهم في تهدُّج باك يجأر في طلب العفو والشفاعة والتوبة، وقد اندمجتْ أنفاسهم المتلاحِقة في صرخة مبحوحة واحدة منغَّمة تقول: «الله، الله، الله!»


 


ولكنني انقطعتُ عن الذهاب فجأة، فقد أدركتُ أنَّ استغراقي في الذكر لا يمكن أن يوصلني أبدًا إلى حلٍّ للمشكلة، وعليَّ أنا أن أحلَّها بنفسي إذا أردتُ لها حلًّا.


 


ثم إنني كنتُ قد فطنتُ إلى شيء، فقد أدركتُ أنَّ السلطان حامد ليس وليًّا من أولياء الله، فالأولياء يسمُّونهم مشايخ، فلماذا يسمُّونه هو السلطان؟!


 


ورحتُ أعجب كيف لم أفطن إلى تلك الحقيقة البسيطة الواضِحة وضوحَ الشمس من قبلُ؟! صحيح كيف لم أفطن إليها؟! ووقفتُ طويلًا أتأمَّل هذه النقطة وأعذر أهل بلدنا الذين كنتُ أتَّهِمهم بالعبط؛ لأنهم لم يحاولوا أبدًا أن يتساءلوا عن سرِّ السلطان حامد، أحيانًا يكون من الصعب بل المستحيل أن نفكِّر في أشياء تعوَّدْنا أن لا نفكِّر فيها، وتعوَّدْنا أن نأخُذَها كما هي، فتعذيب الحيوانات حرام أمَّا ذَبْحُها فحلال، والمرأة تُطْلِق شعرَها والرجل يَحْلِق شعره، ولا تعامل الحافي بمثل ما تُعامِل به راكب العربة مع أن كليهما إنسان، وأن يبدأ الواحِد في مراجعة إيمانِه بالقضايا المسلَّم بها مسألةٌ صعبةٌ، بل تكاد تكون مستحيلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى